أم لعلك قدرت الأمرين جيمعا فنصحت لي ونصحت لنفسك، وأبقيت على حياتي، وأبقيت على كرامتك، حين أزمعت ذلك الرحيل. مهما يكن من شيء، فإنك قد منحتني الحياة مرة ثانية حين تركت لي قلب مكسيم وحبه. فأنا مدينة لك بهذه الحياة، ولو قد اطلعت على قلبي من مهاجرك ذلك البعيد لرأيت أني كنت قد اتخذت لك فيه معبدا خاصا أسميته معبد الوفاء، ولعلمت أني كلما أحسست لذة وغبطة أو سعادة أو ألما أو حسرة - وما أكثر ما كنت أحس هذا كله - قدمت إليك بعض ما كنت أجد قربانا لوفائك وعرفانا لجميلك، وإيمانا بما لك علي من فضل ليس إلى وصفه ولا إلى تقديره من سبيل.
ليت النبأ الذي حمل إلي عودتك إلى أرض الوطن ألقي إلي سمحا سهلا نقيا. إذن لأسرعت إليك، ولأديت بين يديك بعض ما كان ينبغي أن أؤدي من الشكر والوفاء. ولكني عرفت عودتك مصادفة. وأي مصادفة؟! إني لأذكرها فتقف نفسي عن التفكير، ويقف قلبي عن الشعور، ويقف قلمي عن الكتابة، وتنحدر من عيني دموع غزيرة حارة، ولكنها لا تخفف هذه النار المضطرمة بين جوانحي؛ نار اليأس والحسرة وخيبة الأمل وكذب الظنون.
هذا المعبد الذي كنت أقمته في قلبي قد تهدم، وهذه الصورة الجميلة التي رسمتها لنفسك في أعماق ضميري قد درسها المسخ والتشويه، واستحالت إلى صورة مخيفة بشعة، تروعني وتملأ نفسي هلعا وجزعا ...
ماذا؟ أيستطيع الناس أن يرتفعوا من البر والطهر والنقاء إلى حيث ارتفعت يا لورنس، ثم يهبطوا من الخزي والإثم والعقوق إلى حيث هبطت يا لورنس؟ أشهد أن الإنسان مستقر المتناقضات، وأن الشهوة أقوى من العقل، وأن الشر أعظم على نفوس الناس سلطانا من الخير. أتعرفين كيف انتهى إلي نبأ عودتك؟! في حديث من هذه الأحاديث المألوفة التي تجري بين الأصدقاء في غير تكلف لها ولا احتفال بها.
كنا نسمر في بيتنا كما تعودنا أن نفعل مع جماعة من الأصدقاء الذين تعرفينهم، وكنا نتجاذب الحوار في موضوعات مختلفة كما تعودنا أن نفعل، فانتهينا إلى الحب وانتهينا إلى الوفاء، وأفضنا في ذلك حتى عرض مكسيم لعادة تقرها بعض الجماعات المتحضرة؛ عادة تعدد الزوجات.
وإذا مكسيم يدافع عن هذه العادة دفاعا حارا، ويذود عنها ذيادا عنيفا، ويزعم أن قلب الإنسان أوسع من أن يضيق بحب شخصين، أو حب أشخاص. والأصدقاء من حولنا يجادلونه في ذلك جدالا عنيفا، وأنا أسمع ذلك ضاحكة منه أول الأمر، ثم منكرة للغلو فيه، ثم دهشة لهذه الحماسة التي يظهرها مكسيم. ثم متنبهة لما كان يرد به فيليب من ألفاظ لا تخلو من تلميح وتعريض.
ثم نتفرق، وقد وقر في نفسي من هذا الحوار شيء لم يخل من تنغيص لما كان بيني وبين مكسيم من صفو. وأكاد أنسى هذا الحوار وأعرض عنه بعد أيام. ولكن فيليب الذي يتردد علينا، ويكثر التردد، والذي يتودد إلي ويسرف في التودد، يزورني ذات يوم، وقد عرف أن مكسيم غائب في بعض أسفاره القصيرة التي كثرت واتصلت في هذه الأيام، فنأخذ في أطراف من الحديث، وما أسرع ما يبلغ بحديثه نجوى الحب التي أرده عنها كلما ألم بها ساخرة منه في رفق ومودة. ولكنه في هذه المرة لم يرتد، ولم يثب إلى وقاره ورعاية ما كان يرعى من الحق، وإنما تمرد واحتد وثار ثائره، واندفع في ألفاظ مختلطة، عرفت منها بعد دقائق كل شيء.
عرفت منها أن الرسائل اتصلت بينك وبين مكسيم بعد أن عجزت عن احتمال الفراق الطويل. وعرفت منها عودتك إلى فرنسا واستمرارك في جرينوبل، واستئناف الأمر بينك وبين زوجي. وعرفت منها أمر هذه الأسفار القصيرة المتصلة التي كانت تدعو إليها الأعمال فيما كان ينبئني، والتي إنما كان يدعو إليها الحب وما استتبع من لهفة بعد طول الفراق، ومن ظمأ بعد طول الحرمان.
ولله قلب فيليب هذا الفتى البائس المسكين، الذي ثاب إلى رشده بعد أن فضح السر وخان الأمانة، وأظهرني على ما كنت أجهل، فقد تولى كئيبا يائسا مستخذيا، ثم انقطعت عني أخباره. أما أنا فقد ثبت لهذه الصدمة كما ثبت لصدمة أخرى تعرفينها، فلم أثر ولم أجزع، ولم أصل إلى الأزمة كما لم أصل إليها من قبل. ولكني لم أقاوم حب الاستطلاع، بل لم أفكر في المقاومة، وإنما وازنت بين خيانة مكسيم لحبنا وبين ما سأقدم عليه حين أخونه في ما يحفظ من الرسائل. وما هي إلا أن أقتنع بأن هذه الرسائل من حقي.
ويقبل الليل وتهدأ الحركة، وتستقر الأشياء، وأذهب أنا إلى مكتب مكسيم، فأنفق الليل فيه مع رسائلك يا لورنس، على حين كان ينفق مكسيم ليله في حبك في غرفة من الغرفات في مدينة جرينوبل. ولست أدري كيف أصف ما كنت أجد من شعور حين كنت أقرأ رسائلك الرائعة وحين كنت أتصور الخاتمة التي انتهى إليها هذا الجهاد المجيد. ولكنه لم يكن شعور ثورة ولا غضب ولم يكن شعور سخط عليك أو لوم لك، وإنما كان شعورا حزينا هادئا مطمئنا. وكان شعورا حزينا يائسا مصمما مع ذلك. وكان فيه كثير من الرحمة لك، والاعتذار عنك، والإشفاق على طفلنا هذا البائس التعس الذي لن يستقبل الحياة كما كنت أتمنى أن يستقبلها سعيدا بين أبوين سعيدين. وأنا أكتب إليك الآن، ولست أدري لماذا أكتب إليك! ولكني دفعت إلى ذلك دفعا.
Shafi da ba'a sani ba