وكذلك أنفق ساعات طوالا مع هذا الشاب أو ذاك من شباب القرية، ومن شباب القرى المجاورة، فأسمع منه وأتحدث إليه وأبلو أخلاقه وأمتحن سيرته، وأنصرف عنه راضية حينا وساخطة حينا آخر، حامدة مرة وناقدة مرة أخرى. وأنا مع ذلك سجينة غرفتي، أو مضطربة في البيت، أو متنزهة في الحديقة، خالية إلى نفسي على كل حال، لا أرى من هؤلاء الشباب أحدا ولا ألقاه بحديث، حتى طال علي هذا الأمر وثقل على نفسي هذا الهيام، وأخذت أكره التفكير في الخطبة والزواج، وأتمنى أن ينجلي هذا الغموض وأن تتاح لنفسي - هذه الهائمة - غاية واضحة تقف عندها، مفكرة مقدرة، فتقبل عليها آخر الأمر أو تنصرف عنها.
7
وهذا يوم من الأيام ينقضي كما انقضت هذه الأيام القليلة الماضية، لا تنجلي فيه الحقيقة لهذه النفس الحائرة، ولا تستطيع نفسي أن تبرأ من حيرتها وأن تفكر في غير ما دفعت إلى التفكير فيه. ومع ذلك فقد حاولت أن أشغلها عن ذلك بالقراءة وبالحديث، فلما لم تغن القراءة ولا الحديث تكلفت شيئا من النشاط، فخرجت للتروض وأبعدت في المشي.
ولكني رجعت كما خرجت مفرقة النفس شاردة الخواطر، مضطربة بين الثورة والهيام، فلم أكد أستقر وأستريح من جهد الرياضة حتى استأنفت النشاط وخرجت فزرت بعض الصديقات وأخذت معهن في ألوان من الحديث مختلفة، ولكني كنت أحس دائما أن لي نفسين: إحداهما تلقى الصديقات وتتحدث إليهن وتسمع منهن، والأخرى مقيمة في أعماق الضمير ظاهرة غير مستخفية، ناطقة غير صامتة، تبحث وتستقصي وتسأل وتلح في السؤال، وتهيم وتشقى بالهيام. وما أظن إن اتصل الأمر على هذا النحو إلا أنه سيظهر لأسرتي، وستنكر أمي بعض سيرتي، وسأضيق بهذا الإنكار وبما سيتبعه من السؤال.
ما أشد حاجتي إلى رحلة قصيرة تخرجني من هذه البيئة وتصرفني عن هذه الخواطر! ولكن هل إلى الرحلة من سبيل؟ إن قوانين الأسرة صارمة صلبة لا مرونة فيها ولا لين. الرحلة ميسرة لنا في الصيف، نصعد في الجبل إلى أرفع من هذه القرية التي نعيش فيها، أو ننحدر إلى المدينة أو إلى ما يليها من شواطئ، أو نبعد في السفر فنهبط إلى ساحل البحر، فنغير الجو والإقليم تغييرا تاما. وقد كانت الأعوام التي سبقت الحرب تتيح لنا الإمعان في السفر وتجاوز حدود فرنسا من هذه الناحية أو تلك، وربما سمحت لنا بركوب البحر وعبوره أيضا.
الرحلة ميسرة في الصيف لأنها تبيح لنا الاستمتاع بحقنا من الراحة. والرحلة ممكنة في الشتاء على أن تكون قصيرة، وعلى أن تكون قريبة، وعلى أن تدعو إليها الظروف؛ فقد نزور هذا الفرع أو ذاك من فروع الأسرة التي أراد حسن الحظ ألا تجتمع في قرية واحدة أو في إقليم واحد، وإن تقاربت مواطنها وسهل تزاورها. الرحلة ميسرة في الصيف ممكنة في الشتاء، ولكنها محظورة في غيرهما من فصول السنة إلا أن تدعو إليها ظروف قاهرة.
ومهما تكن رغبتي في الرحلة فإني أوثر البقاء على أن أرحل مستجيبة لبعض هذه الظروف. وما أدري بعد ذلك، أواجدة أنا في نفسي الشجاعة على السفر إن تهيأت لي أسبابه؟ فليس من اليسير ولا من الأشياء التي أستطيع احتمالها ترك هذين الشيخين المحزونين، وهذه الأم البائسة ذات القلب الكسير والبال الكاسف والحياة التي أظلمت من جميع جوانبها، ولم يبق فيها إلا هذا الضوء الضئيل الذي يأتي من أخي ومني فيعينها ويعين زوجها على الصبر والاحتمال.
لا، ليس إلى الرحلة من سبيل، وما ينبغي التفكير فيها فضلا عن التحدث بها، وحسبي أن يوما سيأتي بعد وقت طويل أو قصير أرحل فيه عن هذه الدار وأنأى فيه عن هذين الشيخين، وأن هذا مصير أخي، وأن أمر هذين الأبوين صائر إلى هذه الوحدة المنكرة التي لا أفكر فيها إلا امتلأت لها نفسي حزنا، وامتلأ منها قلبي رعبا. وحسبي أن هذين الأبوين الكريمين يهيئان لأنفسهما هذه الوحدة، ويعدان لأنفسهما هذه العزلة، يؤديان بذلك ما يريانه واجبا عليهما وحقا لنا، لا يفكران فيما هما أهل له من عطف، ولا يذكران ما قد يحتاجان إليه من معونة.
إنهما يفكران في ذلك ويجدان، هما الآن يفكران في خطبتي وزواجي، وسيفكران غدا - إن لم يكونا قد فكرا - في خطبة أخي وزواجه، وهل لهذا كله نتيجة بالقياس إليهما إلا الوحدة المظلمة والعزلة المؤلمة والحياة القاتمة التي يحياها أصحابها وقد يئسوا من ماض لا سبيل إلى عودته وانتظروا مستقبلا أيسر ما يقال فيه إنه الضعف والعجز والفناء والموت؟
كلا، ما ينبغي لي أن أفكر في الرحلة، بل ما ينبغي لي أن أفكر في فراق هذين الشيخين قبل أن يكون لي من هذا الفراق بد، بل ما ينبغي لي أن أضيق بشيء أو أن أظهر لهما أني ضيقة بشيء، وإنما أيسر حقهما علي ألا يريا مني إلا وجها مشرقا، وثغرا باسما، ونفسا راضية، وقلبا مطمئنا يملؤه الحب والوفاء، ويفيض منه العطف والحنان.
Shafi da ba'a sani ba