133

«الحياة موت، والموت أيضا حياة.» (عن مقطوعة نثرية كتبها في سنوات جنونه)

هلدرلين المسكين ...

هكذا سماه الناس من حوله .. وبهذا شهدت أقوالهم وذكرياتهم عنه.

قدر عليه أن يتوه ستة وثلاثين عاما في صحراء الجنون، أن يجرب الموت في الحياة والحياة في الموت .. حتى حن عليه فمنحه الخلاص الأخير في اليوم السابع من شهر يونيو سنة 1843م.

وتتفق أقوال الشهود في أمور كثيرة. فهم يجمعون على أن صاحب الوجه الآسر الجميل أصبح شبحا يتجول في بيت النجار الطيب كالحالم أو كالنائم أو كالميت. وكل الذين رأوه أو حاولوا التحدث إليه وجدوه لا يكف عن الكلام مع نفسه، وآلمهم حرصه على أن «يظل بعيدا عن كل إنسان يحاول الاقتراب منه».

وأفاض المعاصرون في الكلام عن جنون الشاعر ووحدته وهدوئه واستسلامه. وكتب اثنان

1

منهم سيرة حياته فزحموها بالوقائع والتفاصيل، وأكثروا من الحديث عن مظاهر المرض وأطواره. واختلط الحق بالباطل، والحقيقة بالخيال. وأصبح الشاعر العظيم «حالة» مرضية في تاريخ الأدب، حتى أنقذته البحوث الجادة في الخمسين سنة الأخيرة فقدرته واكتشفته وعرفت منزلته، وأوشكت أن تجعل منه (بعد جوته!) أكبر عبقرية نطقت بالشعر في تاريخ لغته وأمته .

هناك عدد لا بأس به من الصور والرسوم والنقوش البارزة من الشمع التي تعطينا فكرة عن مظهر الشاعر في محنته الطويلة. غير أن تقديرنا لموهبته وعبقريته أكبر من أن يجرفنا للحديث عن تفاصيل مرضه وعذابه. وإن كان هذا لا يمنع من تسجيل بعض الشواهد التي تدل على عبقريته الذابلة أكثر من دلالتها على مرضه أو شذوذه.

فنحن نخرج من تأمل صوره وذكريات معاصريه بإعجاب لا حد له بجبهته العالية المثقلة بالخواطر والهموم - وما أكثر مشروعاته الأدبية التي صرعها المرض وبقيت أشباحها تطارده - ولعل هذه الجبهة الشامخة أن تكون شاهدا على الثروة الفكرية الهائلة التي كانت تزدحم بها ذات يوم. أما عيناه المعبرتان فلم يمح الجنون شيئا من بريقهما وصفائهما، وإن أضفت عليهما الفجيعة هدوءا وانكسارا واستسلاما يجرح القلب. يقول أحد الشهود بعد أن رآه: «لم يسبق لي أن رأيت أجمل من هاتين العينين في وجه إنسان فان.» وليس هناك أصدق من هذه الكلمات تعبيرا عن مأساة الشاعر التي تجلت في نظرته الكسيرة الحائرة. لقد فقد كل قدرة على تجميع الفكر وتركيزه، فازدادت نظرته مع الزمن جمودا، وسبحت في تيه الغيب المظلم البعيد.

Shafi da ba'a sani ba