Dokin Kore Ya Mutu a Kan Titunan Asphalt
الحصان الأخضر يموت على شوارع الأسفلت
Nau'ikan
كانت تنتظر في المحطة بضع ساعات، وكلما وقف قطار أقبلت على النازلين منه تسألهم بصوتها الهادئ المبحوح: عاوز حاجة يا ابني؟
ويبدو أنها كانت لا تخطئ الغريب، وأن الغرباء كانوا يؤخذون بسؤالها في أول الأمر، أو يحملونه محمل الجد، أو يرون فيه علامة على كرم أهل البلد وشهامتهم، وكانوا بالطبع يسألون عن المضيفة التي تؤويهم، أو التاجر الذي يقصدونه، أو العمدة الذي يتجهون إليه، أو المدرسة، أو الوحدة التي سيعملون بها؛ فلا يتلقون سوى جواب واحد: حاضر يا ابني، أقول لهم يا حبيبي، روح انت بالسلامة وانا اقول لهم على كل حاجة.
وما لبث الغرباء أيضا أن عرفوها، وعمال المحطة وموظفوها أن بدءوا ينهرونها، أو يحذرون المسافرين منها، أو يطالبونها بالبعد عن القطار والرصيف والمحطة كلها؛ حتى لا تأتي لهم بمصيبة.
ويظهر أنها سمعت هذه النصيحة التي بدأت تتكرر عليها من الجميع، فجاء يوم لم نجدها فيه، لا في شوارع البلد، ولا في بيتها، ولا على المحطة؛ هل تكون عجلات القطار قد دهستها دون أن نشعر في مكان بعيد أو قريب؟ أتكون قد ركبت القطار وذهبت إلى قرية أخرى، أو إلى البندر الذي سمعنا أن ابنها الوحيد مات فيه؟ لا أحد يدري! (1968م)
بكاء
كانت قد خرجت من محل شملا في ظهر ذلك اليوم، تحمل في ذراعها اليسرى كيسا منتفخا بملابس الأولاد: ملابس داخلية، قمصان للصيف، مايوهات ملونة للبحر، أحذية على مقاس الأقدام الصغيرة المحبوبة، وتضع ذراعها اليمنى في ذراع زوجها الأستاذ سعيد مهندس التنظيم، وكانت السعادة تملؤها لتوفيقها في الشراء من الأوكازيون؛ فالبائع كان لطيفا سمح الوجه، واختيار البضاعة لم يكن عسيرا، والثمن الذي دفعته لم يكن باهظا على الإطلاق، وكان الشعور بالرضا والارتياح يغمرها ويفيض عليها سعادة هادئة تبدو في عينيها المرحتين الصافيتين، ومشيتها الرزينة المطمئنة، وإحساسها اللذيذ بالقرب من زوج طيب ودود ينم وجهه الأبيض الهادئ عن الرجولة والاعتداد والحنان.
وكانت هذه المشاعر الهادئة تصرفها عن ملاحظة الجو الخانق الذي يكتم الأنفاس، وتبعد عنها السخط والضيق والنكد الذي كانت تحس به عادة من الزحام في هذه الساعة التي يخرج فيها الموظفون والعمال؛ بل إنها - لفرط سعادتها ورضاها - وجدت ذلك كله شيئا طبيعيا، وبدت كأنها تقرأ في الوجوه الملولة المتعبة التي تقابلها، والمركبات العامة التي تميل هياكلها وتئن عجلاتها تحت وطأة الزحام والصراخ والسباب، والأشجار الهامدة التي تتلهف أوراقها الجافة على نسمة من الهواء، والضجيج المزعج الذي ينبعث من الأبواق والحناجر وأجهزة الراديو؛ بدت كأنها تلمح في هذا كله نوعا من النظام الطبيعي الخالد الذي يسير كل شيء فيه على ما يرام!
كانت تتمنى لو استطاعت أن تتغنى بأغنيتها المفضلة التي ترددها بإصرار مضحك في المطبخ والحمام، أو تقبل «سعيد» قبلة مفاجئة لا يفهم سرها كعادته، ولكنه يتلقاها منها في رضا وسرور.
وراحت تداعب في خيالها صورة أولادها الثلاثة الذين سيستقبلونها بالصياح والهتاف والأيدي الممدودة إلى الجيوب والأكياس، كما ترتب في ذهنها أطباق الغداء على المائدة، والقمصان الجديدة على أجسام الصغار، والأحذية والصنادل في أقدامهم، والبهجة التي ستشع من كل مكان في المسكن الأنيق.
كانت تقترب مع زوجها من محطة الأوتوبيس الذي سيحملها إلى مصر الجديدة، وتداعب هذه الأفكار المشتتة كما لو كانت تجلس في زورق يهتز فوق موج هادئ عندما رأته، فانقلب الزورق فجأة وغاصت مفزوعة إلى القاع. من المبالغة بالطبع أن يقال: إنها عرفته أو تذكرته من أول نظرة؛ فقد كان يقف هناك على الرصيف قبل منتصف الشارع المؤدي إلى المحطة المزدحمة بالناس، كما يقف آلاف الشحاذين في كل مكان.
Shafi da ba'a sani ba