نار ونور
كان صاحبنا في الخامسة والعشرين، عندما انتقل من عشرينيات القرن إلى ثلاثينياته، لكن النقلة هنا لم تكن من عقد إلى عقد من عقود السنين وكفى، بل كانت ذات أبعاد أخرى وأغوار، فقد انتقل من دنيا التدريس ومن التحرك في أوساط الشباب من أنداده إلى التحرك في أوساط الرجال الراشدين، وأي رجال هم؟ إنهم صفوة من صفوة المثقفين، وذلك أن أخانا كان قد بدأ يكتب وينشر لسنوات خلون، ولا بد أن تكون كتابته قد اشتملت على شيء يستوقف أنظار الأئمة الرواد، فضلا عن جماعات المثقفين؛ لأنه تلقى دعوة شفوية لينضم عضوا في لجنة التأليف والترجمة والنشر، وكان ذلك في الأعوام الأولى من الثلاثينيات، وهي لجنة ثقافية تألفت سنة 1914م، وتولى رياستها الأستاذ أحمد أمين منذ يومها الأول وإلى أن توفي سنة 1954م، وأما أعضاؤها عندئذ فهم جماعة من ألمع ما سطعت به الحياة الثقافية من نجوم، واسمها دال على أهدافها وهي أهداف ثلاثة تذكرنا بالأهداف الثلاثة التي استهدفها رفاعة رافع الطهطاوي في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وهذا معناه أن الأعوام المائة التي تقع بين الوقفتين لم تغير مما أرادته النهضة الثقافية لنفسها، فهي تريد قناتين تنتهيان إلى ثالثة تغذيانها بما تحملانه من حريق، والقناتان هما: إحياء الماضي الذي يستحق الإحياء ونقل من ثقافة الغرب لما يستحق أن ينقل، فيكون الأمل المرجو بعد ذلك هو أن يتلاقى الغذاء آتيا من نفائس آبائنا من قناة الإحياء، وآتيا من نتاج الغرب قديمه وحديثه على السواء، من قناة الترجمة، فإذا صادف ذلك المركب الغذائي موهبة أبدعت جديدا، بوحي مما استقبله من هنا ومن هناك، فكهذا أراد الطهطاوي عندما أنشئت له مدرسة الألسن، لتكون دارا للترجمة عن أوروبا، أضاف هو إلى الترجمة نشاطا آخر لنشر مختارات من عيون التراث، ثم جاءت مؤلفاته هو نموذجا بما يمكن أن يكون ضلع الإبداع من أضلاع المثلث الثقافي، وهكذا أيضا أراد مؤسسو لجنة التأليف والترجمة والنشر، وهو أن تنقل بالترجمة عن الغرب ما تختاره من نتاجه وأن تقوم على نشر ما ترى نشره من التراث وذلك بعد تحقيقه، ثم تترك للمواهب المبدعة أن تؤلف من لدنها ما تثمره تلك المواهب، وكان أحمد أمين هو المهندس الأول الذي يضع المطبوعة الزرقاء لما ينبغي أن تسير عليه خطوات البناء، فهو بحق طهطاوي القرن العشرين في مصر.
كانت هذه الخطة الثلاثية التي سارت عليها نهضتنا الثقافية، هي نفسها القاعدة التي لو جعلها من أراد تثقيف نفسه خطة يهتدي بها في تكوين بنيانه، لانتهى بنفسه إلى هوية متكاملة البناء سواء جاء ذلك البناء قليل الطوابق أو كثيرها، ثم هي هي الصورة التي يمكن اتخاذها ميزانا توزن به أقدار المثقفين خفة ورجحانا، فلو تعقبت أعلامنا الرواد جميعا لوجدت السمة المشتركة بينهم، هي أن يكون كل رائد منهم على علم واسع ودقيق بجانب من ميراث أسلافنا، كل في مجاله، وأن يكون في الوقت نفسه على معرفة بلغة أوروبية واحدة على الأقل تمكنه من متابعة ما ينتجه أصحاب تلك اللغة هناك من جديد يستحق العناية، فإذا تذكرنا أن اللغات الأوروبية ينقل بعضها عن بعض أهم ما ينتجه المبدعون في كل ميدان أدركنا أن معرفة لغة أجنبية واحدة تكفي صاحبها ليلم بجوانب الثقافة الأوروبية - والأمريكية بعد ذلك - أيا ما كان مصدرها، وإلى جانب العلم بما يهم ويكفي من تراث الآباء، والعلم بما يجدر العلم به من نتاج الغرب صاحب العصر وحضارته، ترى لكل رائد من أعلامنا ناتجا أبدعته قريحته، مستلهما فيه محصوله الذي جمعه من القناتين، وبالميزان الثلاثي نفسه، يمكن معرفة وجه التقصير والقصور فيمن أفلتت من أيديهم الصورة الثقافية وهي في حالة اكتمالها، وهؤلاء صنفان، فإما أن ترى الواحد منهم قد اكتفى بدارسة شيء من التراث ولم يلتفت إلى شيء من ثقافة الغرب، أو اكتفى بدراسة ما جاءه عن ثقافة الغرب، ولم يلتفت إلى إرث ماضيه، وفي كلتا الحالتين عرج يتعذر معه أن يجيء خطو السائر كما ينبغي له أن يجيء.
كانت تلك هي لجنة التأليف والترجمة والنشر، برئيسها وبأعضائها وبخطتها وبإنتاجها، وباجتماعاتها الأسبوعية كل خميس، التي كانت تجتذب كبار القوم من مصريين وغير مصريين من سائر أجزاء الوطن العربي، وفي تلك اللجنة أضحى صاحبنا عضوا من أعضائها، يملأ صدره وهم مخيف، بأنه قامة قصيرة وضعت بين قامات طوال، لكن ذلك الوهم لم يمنع أن يكون الشاب قد خرج من عقد العشرينات، حيث تكاثرت أمام ناظريه أفكار كبرى تأتيه من كل حدب وصوب، فخرج منها بواحدة جعلها محورا لنشاطه الفكري، ولا أظن أن ذلك المحور الأساسي قد تبدل مع أعوام بلغت به الستين منذ انتهت العشرينيات إلى أن بدأت من القرن تسعينياته، وذلك المحور الأساسي هو فكرة «التقدم»، فقد رآها تجمع له كثيرا جدا من العناصر التي لا غناء له عنها إذا هو أراد حقا أن يخدم أمته بفكره، فها هو ذا عصرنا تدوي جنباته بضجة النداء إلى تغيير حضاري شامل كامل، يهدم القديم العتيق من أساسه ليقيم الجديد مكانه ، وانظر حولك الآن - أعني الثلاثينيات - فثورة سياسية (1919) في أعقاب الحرب العالمية الأولى، أعقبتها ثورات فرعية خلال العشرينيات، في الاقتصاد، وفي الموسيقى، وفي الفن التشكيلي، وفي الشعر، وفي النقد الأدبي، وفي التعليم، وفي الأوضاع الاجتماعية، وإنما جاءت تلك الثورة المصرية وتفريعاتها في عالم امتلأ بالثورات: فالحركة الفاشية في إيطاليا، والحركة النازية في ألمانيا، والحركة الشيوعية في الروسيا، وغاندي في الهند وعصيانه المدني، والحرب الأهلية في إسبانيا، كلها جاءت لتغيير أسس الحياة من الجذور، ولا يعنينا هنا أن يكون بعضها قد طفا وبقي وأجحف الميزان، إذ نركز أبصارنا في نقطة واحدة، هي وجوب الهدم ليتاح لنا البناء على طراز جديد، وكان إلى جوار هذه الحركات السياسية حركات ثقافية تساعد على قوة المد في الاتجاه نفسه، وكما ذكرنا في حديثنا الماضي كان الفكر الفلسفي يتجه معظمه نحو رؤية «التطور» وقد أخذ بأطراف الكون كله، ثم ضاقت دوائره لتشمل كل كائن من كائنات الكون، وذهبت فكرة كان لها فيما مضى سيادة كلما أراد الإنسان أن يفهم الكون وكائناته، وحلت محلها فكرة أخرى تريد لنفسها الشيوع، وأما تلك التي ذهبت وذهب زمانها فهي افتراض الثبات في حقيقة الشيء المعين - كل شيء وأي شيء - لكن كيف يكون ثبات للنهر، والشجرة، وكوكب الأرض وأي شيء تختاره، إذا كنا ننظر فنرى رؤية العين أن كل شيء يتغير لحظة بعد لحظة: الماء في النهر قد جرى ليحل محله ماء آخر، الشجرة تتغير أوراقها وأزهارها وثمارها، الكوكب الأرضي يتناوبه الليل والنهار، كما تتبادله فصول السنة الأربعة: صيف، فخريف، فشتاء، فربيع؟ أين يكون ذلك الثبات المزعوم إذن؟ آه - كان الجواب فيما مضى - أن لكل شيء «جوهرا» لا تراه عيناك ولكن عقلك يدركه - وذلك الجوهر يحمل الصفات الأساسية التي تجعل أي شيء هو ما هو، فيكون القط قطا والعصفور عصفورا، والإنسان إنسانا، وهكذا، ومثل هذا «الجوهر» في الشيء المعين ثابت، ومن ثباته يستمد الكائن ثباته، هكذا كان يجيء الجواب لمن يرى الأشياء تتغير أمام عينيه، فيسأل: أين هو الثبات المزعوم؟
فجاءتنا فلسفة عصرنا هذا برؤية أخرى تتلاءم مع فكرة «التطور» التي تسود، وهي أن أي شيء في هذا الوجود، بل الوجود كله، في مجموعه، إنما هو «سيرة» أي إنه «تاريخ» بمعنى أنه يتألف من حالات - تختلف أو تتشابه - يعقب بعضها بعضا في تلاحق سريع، والذل يوهمك بأنه «واحد» و«ثابت» أن له عندك «اسما» واحدا، وأن حالاته المتغيرة المتلاحقة قد يضمها «إطار» يوهم بوحدانيتها، كأفراد النحل في الخلية، ومن هذين العاملين يجيئك وهم الواجدية في شيء ما، فإذا قلنا - مثلا - «جامعة القاهرة» سبق إلى الظن بأن هذا الاسم يشير إلى كائن واحد ثابت، لكن دقق النظر تجد «جامعة القاهرة» إنما هو اسم يشير إلى عالم يعج بتفصيلاته وأفراده وتغيراته لحظة بعد أخرى، فالأمر في كل شيء شبيه بمعزوفة موسيقية، أو بمسرحية تشاهدها على المسرح، فالمعزوفة «امتداد» زمني تتوالى فيه الأنغام، لكل نغمة وجودها الخاص، والمسرحية أحداث تتلاحق لكل حدث منها وجوده الخاص، وعلى هذا التصور راجع رؤيتك للكائنات وفهمها على الوجه الصحيح.
على أنه لا ينبغي لنا أن ننسى بأن هذا التصور الجديد لحقائق الأشياء، هو مجرد «حالات» تتغير وتتلاحق متتابعة، وليس في ذلك ما يدل على «التقدم»، وإذن فلا بد لنا من إضافة نضيفها إلى مجرد التغير لنجعل منها «تقدما» فماذا نضيف؟ الجواب في كلمة واحدة - كما تصوره صاحبنا وهو في مرحلة انتقاله من عشرينيات القرن إلى ثلاثينياته - هو «الهدف» الواحد يشيع بين مبدعي الثقافة، فيتجه إبداعهم نحو ذلك الهدف، كل بلغة مجاله الذي يبدع فيه الأنغام عند الموسيقي، والكلمات عند الشاعر، والأديب، والألوان والخطوط عند الفنان التشكيلي، والحجر والخشب والحديد مع منوعات من معادن أخرى، عند النحات والمعماري، وقد كان المناخ العام - كما رآه أخونا عندئذ - ينبئ بأن التوحد النسبي للهدف الذي شهدته سنوات العشرينات وما قبلها بقليل، قد أخذ يتفكك، ويتكثر، فهنالك نشأت جماعة الإخوان المسلمين تنادي بالعودة إلى الماضي لنأخذ منه الهدف، وهنالك متوازية مع تلك الدعوة وليس تأثرا بها، ولا نتيجة لها ، شغل أعلامنا في كثرتهم الغالبة بالتوجه نحو ينابيع إسلامية يستمدونها موضوعات للكتابة، بل - وأحيانا - مناهج للتفكير، وكانوا في ذلك كأنهم في سباق، ونحن في هذا السياق من الحديث لا نريد الموافقة أو المعارضة، بقدر ما نريد إثبات الرؤية التي رأى بها صاحبنا أحداث عصره واستجاب لها تأييدا أو تفنيدا، ولقد كانت رؤيته يومئذ لذلك التحول الذي بدأت تتحول به أعلام الثلاثينيات عن أعوام العشرينيات هي المعارضة، فذلك التحول من شأنه أن يؤدي إلى نتيجتين؛ إحداهما: أن تتعدد الأهداف بين المبدعين، فهذا يشد الأبصار إلى ما فات وذلك يشدها إلى ما هو آت، وأما النتيجة الثانية: فهي أن الرجوع إلى الماضي لالتقاط أهدافنا من تصورات الأمس، هو بمثابة رفض صريح لفكرة «التقدم» التي هي من أبرز ما يميز الوجه الثقافي لعصرنا هذا.
وإن هذا الكاتب لعلى يقين بأن القارئ ستأخذه الدهشة من هذا القول العجيب، ففكرة «التقدم»، في ظن الكثرة الكاثرة من الناس، فكرة تمليها البديهة الفطرية، يدركها كل إنسان في كل عصر، كما يدرك ضوء الشمس بمجرد اللفتة بالبصر، فكيف تزعم أنها وليدة هذا العصر؟ وسوف أتقدم بالجواب بعد قليل، إذ لا مندوحة لنا قبل التعرض لفكرة التقدم؟ وما يراد بها عن توضيح نقطة تستحق الوضوح، فقد قدمنا لك بأن أبرز ملامح الفكر المعاصر كله: رؤيته للكون والكائنات بمنظار «التطور»، فبعد أن كان الظن في كل شيء هو أن الأصل فيه سكون وثبات، حتى يطرأ عليه من خارجه عامل يحركه من سكونه ويبث فيه التغير بعد ثباته وسباته أصبح الظن هو أن الأصل في كل شيء حركة وتغير، إلا إذا جاءه عامل من خارجه فأوقف حركته ورده إلى سكون، وأزال عنه التغير ليصبه في قالب الثبات، ولقد أنبأتك عن صاحبنا بأنه كان قبل انتقاله إلى أعوام الثلاثينيات، قد عبأ رأسه بقدر كاف من نظريات التطور في صورته العامة وبقدر كبير من المذهب الذي جعل كل شيء - والكائنات الحية بما فيها الإنسان بصفة خاصة - هو في حقيقته «سيرة» تتعاقب فيها الأحداث والحالات، وليس «جوهرا» يتصف بالدوام والصمود، وهنا من حق السائل أن يسأل: إذا كانت حقيقة «الإنسان» - كغيره من الكائنات حية وجامدة على السواء - هي أنه سيل يتدفق بأحداث متفرقة وحالات متغيرة، فما الذي «يتقدم» فيه أو يتأخر؟ إن «التقدم» أو «التأخر» لا يدلان على معنى مفهوم، إلا إذا جاءت الصفة منهما لتصف هوية معينة محددة، مما لا يتيسر قيامه في وجود ليس فيه إلا تيار دافق من متفرقات، وهذا صحيح، إلا أن الذي يحدث بالفعل، إذا ما أريد للإنسان - أو أي كائن آخر - أن يبقى له جانب من جوانبه على ثبات يصمد ويدوم، عمل ولي الأمر على تربية تمسك بما شاء من صفات، فيحول بينها وبين أن تتغير، فتصبح تلك الصفات هي «هويته» التي يعرف بها، وذلك هو ما يحدث حيث ثبت في الناس كل يوم، بل كل لحظة من كل يوم، أن يفعل كذا وألا يفعل كيت وأن يقول كذا وألا يقول كيت، على أن هذا الجانب الذي يعمل ولي الأمر على تثبيته فيمن يربيه لا يستعصي فيما بعد على علماء النفس أن يمحوه ويغيروه، وكلنا يعلم ما يسمى ب «غسل المخ» فهو إجراء عم وشاع في عصرنا، بحيث أصبح في مستطاع ولي الأمر، أن يشكل هوية إنسان على أي نحو أراد، بل إن تلك هي إحدى الكوارث التي قد يكرث بها دكتاتور أفراد شعبه، مستعينا بوسائل الإعلام، فيصوغ هؤلاء الأفراد ليتشابهوا جميعا وكأنهم سيارات من طراز معين، أخرجها مصنع واحد على طراز واحد.
والآن وقد أجبنا على سؤال السائل عن جانب الثبات من كيان الإنسان، الذي يجوز لنا أن نتحدث عنه بلغة «التقدم» بقي علينا أن نواجه دهشة المتعجب من أن يكون «التقدم» منسوبا إلى عصرنا، فهل كانت هذه البدهية مجهولة للسابقين، حتى كشف عنها هذا العصر؟ والجواب هو بالإيجاب، نعم، لم يكن السابقون يديرون حياتهم ... حول محور «التقدم» بالمعنى المراد بهذه الكلمة اليوم، وأول جانب من جوانب هذا المعنى، هو أن ينظر إلى كل مرحلة لاحقة، من حياة الإنسانية على أنها لا بد لها أن تكون أعلى درجة من أية مرحلة سبقتها في ذلك التاريخ، فالمرحلة اللاحقة - عند الأخذ بفكرة «التقدم» - أعلم وأفضل وأقدر وأقرب إلى الكمال كما يتصوره خيال الإنسان، من المراحل السابقة، وبالطبع قد تحدث نكسات في الطريق، إلا أن المنحنى العام هو في جملته متجه إلى صعود، كما يفترض النمو في الطفل ولا يبطل هذا النمو أن يعترضه مرض يوقفه إلى حين، حتى يصح فيستأنف نموه من جديد، ولم تكن هذه هي نظرة السابقين في مقارنة حاضرهم بماضيهم، فالإطار الفكري العام عند الإنسان إذا ترك لفطرته، هو أن يجعل «العصر الذهبي» فيما قد انقضى، فأبطال الماضي في كل الميادين لا يتساوى معه أبطال الحاضر، فلا القديس هو القديس، ولا القائد هو القائد، ولا الشاعر هو الشاعر ولا الحكيم هو الحكيم، وهو موقف ينتج بالضرورة لمن يسقط فكرة «التطور» من حسابه، إذ هو في هذه الحالة ينظر إلى الكون بكل ما فيه، فنظرته إلى أثاث البيت، كان أول عهده جديدا سليما نظيفا، ثم أخذ مع الأيام يفقد جدته ورونقه، فلا ألوانه تبقى على لمعانها، ولا المقاعد والمناضد تسلم لها قوائمها، وكل شيء فيه باهت وعتيق.
ولعل قارئنا يلتفت إلى أهمية الفكرة التي أسلفناها عن حقيقة «الهوية» من ناحية الخصائص التي تخلع عليها الثبات النسبي، سواء أكانت هوية فرد معين، أم هوية شعب بأسره دامت له خصائصه الأساسية على امتداد الزمن، وأعني التفاته إلى حقيقة كون الخصائص الثابتة تستمد ثباتها ذاك بفعل التربية والنشأة في ظروف أسرية واجتماعية وبيئية معينة، فمعنى ذلك هو أن هوية الشخص الواحد، أو الشعب الواحد، أمر مكتسب وليس هو مغروسا بغراء في جبلة الإنسان، وإذا كنا قد أصبنا في هذا الزعم، كان لهذه الحقيقة المزعومة أهمية كبرى في موقفنا الاجتماعي الراهن - سواء أخذنا المصري في مصريته، أم أخذناه مواطنا عربيا - وذلك لأننا نود أن تكون الأولوية الحاسمة في تربيتنا لأبنائنا وبناتنا لغرس الخصائص التي تهيئ العربي لمواجهة عصره قويا، واثقا في نفسه، يأخذ من معاصريه ويعطيهم ، ويا ليته يعطي أكثر مما أخذ، فإذا كانت تلك الخصائص الملائمة لعصر العلم الطبيعي والصناعة بتقنياتها الجديدة موجودة بالفعل في الهوية العربية المتوارثة فذلك خير، وأما إذا لم تكن كان علينا أن نبثها في الناشئين لتندمج في كيانهم عنصرا جديدا في مكونات الهوية المصرية العربية، فذلك أمر تربوي وارد وواجب، ولا تناقض فيه.
انتقل صاحبنا من عشرينيات القرن إلى ثلاثينياته، كما انتقل في الوقت نفسه من مرحلة الطلب في دور التعليم إلى مرحلة النضج الذي يضطلع بنصيبه في الإنتاج الثقافي وقد تصادف - كما قلنا - أن تزامن هذا الانتقال (تقريبا) مع انضمامه عضوا في أعلى لجنة ثقافية في تلك الفترة الزمنية، فوجد نفسه مع صفوة العقول وأئمة المبدعين وكان ممتلئ الرأس بقطوف من دراساته ومطالعاته عن أهم تيارات الفكر في الغرب، و«الغرب» عندئذ كان يعني عندنا أوروبا وحدها؛ لأن الولايات المتحدة الأمريكية لم تدخل مسرحنا الفكري بدرجة ملحوظة إلا في أربعينيات القرن، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وأهم ما انتقل به صاحبنا من أفكار تشغله ويتحمس لها فكرة «التطور»، ومن ثم ففكرة «التغيير» وبالتالي فكرة «التقدم» بالمعنى الذي أسلفناه، والذي هو أن يكون بين مسلماتنا الثقافية اعتقاد بأن الحاضر - دائما - أفضل وأكمل من الماضي، اللهم إلا في عصور النكسات التي تتجمد فيها حركة التاريخ، أو تشتد النكسة فيرتد التاريخ منكفئا على ماضيه.
Shafi da ba'a sani ba