Mafarkin Hankali
حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة
Nau'ikan
ولكن قد تبدو فكرة قتله متطرفة وغير معقولة حتى بالنسبة للسجناء المضللين الذين لا يعلمون شيئا عن العالم الحقيقي. ولكن علينا تذكر أن شيئا كهذا قد حدث تاريخيا بالفعل لسقراط نفسه كما يرى أفلاطون. فقد حاول سقراط أن يبث التنوير في نفوس أصحاب الكهف في أثينا فقتلوه. إن صورة الرجل العائد الذي يريد أن يرشد ذويه إلى النور ولكنه يقابل بالعداء وعدم التفهم هي كناية عن الاحتقار الذي يستقبل به أحيانا من عاد من رحلة في دروب المعرفة:
ألا تعتقد أنه من الغريب أن يقابل من عاد من التأملات السامية إلى الشقاء الإنساني بالسخرية والازدراء، وأن يرغم - بينما ما زالت عيناه تطرف في الظلام قبل أن يعتاد عليه بشكل كاف - على مواجهة ظلال العدالة في المحكمة أو غيرها ومجادلة عقول لم تر العدالة ذاتها قط؟
ليس هذا بغريب إطلاقا.
إن مصير السجين العائد في هذه القصة الرمزية الواردة في «الجمهورية» هو تخليد بسيط لذكرى سقراط الذي وقع حديثه عن العدالة على آذان صم.
إن على السجناء المحررين من الأغلال أن يعودوا دائما إلى كهف البشرية؛ ولذلك يستمر الجدل في «الجمهورية» حول هذه النقطة. فكما أن «غير المتعلمين وغير الخبراء بالحقيقة» لا يمكن الوثوق بهم في حكم الآخرين؛ فإن من وصلوا إلى «المعرفة التي قلنا إنها الأسمى» لا ينبغي السماح لهم بالتخلي عن مسئولية نشرها وتطبيقها. فبعد وصولهم إلى القمم المرموقة التي مكنتهم من رؤية الأصوب والأفضل، يجب ألا يسمح للملوك الفلاسفة بأن «يمكثوا فيها رافضين النزول مرة أخرى إلى المقيدين في الأغلال ومشاركتهم كدحهم.» قد يبدو من القسوة إعادة الملوك الفلاسفة إلى الظلام بعد أن أبصروا نور المعرفة، ولكن «القانون لا يرمي إلى استئثار طبقة معينة في الدولة بالسعادة، بل يحاول تعميم هذه الحالة على المدينة ككل»:
يجب أن تشرعوا إذن - كل في موقعه - في توطين الآخرين وتوطين النفس على تأمل الأشياء الغامضة البعيدة. فإن تهيئة النفس لذلك تساعد على التمييز السليم للأشياء دون لبس لأنكم قد رأيتم حقائق الجمال والعدل والخير، وبذلك تحكم مدينتنا بعقول يقظة ، وبآليات ليست كبقية المدن التي يسكنها ويحكمها في ظلمة دامسة رجال يتنافسون على المناصب وكأنها غنيمة عظيمة، بينما الحقيقة أن المدينة التي لا يتمسك حكامها بالمناصب تدار حتما أفضل إدارة وتكون أبعد ما تكون عن الشقاق.
ولكن كيف لتلك المدينة الفضلى - بقادتها الحكماء والمترفعين عن المناصب - أن تختلف عن جميع الأنظمة الأخرى القائمة؟ هناك أنظمة حكم كثيرة على مستوى العالم؛ فهناك النظام الكريتي أو الإسبارطي الذي يهيمن عليه العسكريون، وهناك حكم الأقلية؛ أي حكم الصفوة من الأغنياء، وهناك النظام الديمقراطي الذي تحكمه الجماهير، وأخيرا يأتي الطغيان «وهو النظام الرابع والأخير، وهو بمثابة علة تصيب الأمم.» هذه هي الأنظمة الأربعة الرئيسة ولكن هناك أيضا «الولايات المورثة والممالك المبيعة» وغيرها من الأنظمة الوسيطة. ويقول سقراط إن أنظمة الحكم تتعدد في الواقع كما تتعدد أنواع البشر، وهو يعتقد أن الدول المختلفة تشكل بصورة ما انعكاسا للشخصيات المختلفة لحكامها. وبعد أن ذكر سقراط الكثير عن الحكام العارفين بالفلسفة في مدينته الفاضلة، فهو مهيأ الآن للعودة إلى مهمته الرئيسة وهي: تحليل أنظمة الحكم والنفسيات المختلفة التي تتماشى معها ليكتشف المزيد عن العدالة وكيفية تحقيقها للسعادة.
يرتب سقراط الأنواع الأربعة الرئيسة للحكومات - بالإضافة إلى نموذجه المثالي - في تسلسل هرمي من خمس مراتب، وهو ما يعني أن حكم الملوك الفلاسفة يمثل أعلى المراتب، بينما يأتي الطغيان في أدناها. كما يتبين لنا أن أفلاطون قد وضع الديمقراطية في المرتبة الثانية من حيث السوء بعد الطغيان. فالديكتاتورية العسكرية أو حكم الأقلية من الأثرياء أفضل من حكم الرعاع. ولكن قبل إطلاق أية أحكام حول غرابة الآراء السياسية لأفلاطون، ينبغي أن ندرك أن الأمور ليست كما تبدو في ظاهرها، حيث نميل للاعتقاد بأن الحكم العسكري أو حكم الصفوة هما من أشكال الحكم الطغياني في الوقت الذي يصف فيه أفلاطون الطغيان أنه أسوأ من كليهما. فأي من هذه المصطلحات السياسية لا يتفق مع المعنى الحديث بصورة كاملة - وبخاصة الديمقراطية - رغم أن هناك الكثير من التشابه بين ديمقراطية الأنظمة الليبرالية الحديثة وديمقراطية أفلاطون ، وهو ما يجعل تناوله لها مشوقا. بالنسبة للأرستقراطية، فهي تعني في لغة أفلاطون أن يتولى مقاليد الحكم أفضل الناس وأعدلهم؛ فالأمر إذن لا علاقة له بانحدار المرء من نسل أجداد كان لهم حظ من الثراء أو حظوة لدى الملوك، فهذا هو المعنى الدارج للأرستقراطية في أيامنا هذه.
إن الملوك الفلاسفة - أي الأرستقراطيون الأفلاطونيون - هم رجال يحكمهم العقل؛ لذا فالدولة الأرستقراطية هي تلك الدولة التي تخضع لأكثر المبادئ حكمة. ويأتي نظام الحكم العسكري في المرتبة الثانية من حيث الأفضلية (ويطلق عليه التيموقراطية): وتتحكم في التيموقراطيين العاطفة النبيلة - أي الرغبة في نيل الشرف - ولكن تلك العاطفة ليست في مثل سمو العقل؛ لذا فالدولة التي يحكمونها ليست في مثل منزلة دولة الأرستقراطية. ويأتي في المرتبة الثالثة حكم الصفوة حيث يتحكم في الصفوة الحاكمة من الأثرياء عاطفة دنيئة هي الطمع في الثروة، ولكن لديهم بعض الفضائل. وهم مقتصدون ومنضبطون - إلى حد ما - بدافع ادخار الأموال. ولا يمكن القول بكفاءة نظام كهذا، ولكنه على الأقل أفضل قليلا مما يليه - النظام الديمقراطي - الذي يعوزه الانضباط على المستوى العملي؛ حيث تحكمهم الشهوات الدنيا كالطعام والشراب والجنس والإشباع الفوري للغرائز. فالدولة التي يديرها هؤلاء الديمقراطيون ما هي إلا كيان فوضوي وغير منضبط. أما بالنسبة للطغاة فهم في أدنى الهرم، حيث لا يظهرون أي التزام بالقانون. وهم قد جاوزوا رذائل الديمقراطيين بإقدامهم على فعل ما يحلو لهم أيا كان، كما أنهم مولعون بالقتل بصفة خاصة. ويبدو جليا أن الدولة التي يحكمها الطغاة هي الأسوأ على الإطلاق (حتى وإن كنت منهم كما سنرى).
يشرح سقراط كيف يشرع كل من أنظمة الحكم الأربعة الأولى في التدني حتى يتحول إلى الذي يليه. فكل نظام به عوامل تدميره الذاتية. فحتى النظام الأرستقراطي سينهار في النهاية. فسوف يقوم القادة - عاجلا أو آجلا - بخرق قواعد عملية التكاثر - ربما دون قصد - فيزيد عدد القادة غير الأكفاء؛ مما سيخلف مشكلات عندما يحاول القادة الأكفاء أن يتوافقوا معهم بحيث تنحرف المدينة عن التناغم المثالي. وسيقوم أنشطهم في النهاية - عن طريق السعي الدءوب والتطلع إلى نيل الشرف - بإزاحة أهل الفضل والفلسفة من المسئولية. وستقع الدولة العسكرية الناشئة في حرب أهلية عاجلا أو آجلا، ربما حين ينتهي قادتها من غزو جميع الدول الأخرى. وسيطمع من يتطلع إلى الشرف في زيادة أملاكه؛ مما يغذي أصول حكم الصفوة من الأثرياء حيث «يتحولون من محبين للمجد والشرف إلى محبين للمال، ويعجبون بالأثرياء ويولونهم المناصب ويحتقرون الفقراء.» ومن الواضح أن الثروة ليست دليلا حقيقيا على الكفاءة السياسية. «فإذا كان ربان السفينة يعين وفقا لدرجة ثرائه، ولا يسمح للفقير بتولي الملاحة حتى وإن كان ربانا أفضل ... فستكون النتيجة رحلة مأساوية.» وسيكون سقوط حكم هؤلاء الأثرياء مرهونا بالصراع بين الفقراء والأغنياء؛ أي صراع طبقي. وسيعم السخط بين الناس في ظل ظروف عصيبة نتيجة لجشع طالبي المال، وهو ما يؤدي إلى تفشي الحقد في نفوس الفقراء، فيندفعون للثورة وتأسيس نظام ديمقراطي. وهكذا يكون حب المال قد أتى على حكم الأغنياء من الداخل، كما ستؤدي الرغبة العارمة في الحرية إلى إسقاط النظام الديمقراطي فيما بعد.
Shafi da ba'a sani ba