80

Mafarkin Hankali

حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة

Nau'ikan

لقد تجنب سقراط عرض فكرة الملوك الفلاسفة قبل ذلك خشية التعرض للسخرية؛ فهو يقول إنه مدرك تماما أن معظم الفلاسفة الحقيقيين إما أنهم لا يتحلون بالفضيلة أو أنهم بلا فائدة على الإطلاق، وسيكون من السخف التفكير في توليتهم مسئولية أي شيء. ولكن تصوره للملك الفيلسوف يختلف عن هذه الشخصيات تماما، وسيكون التدريب والانتقاء الضروريان لإعداد الفرد ضمانة بأن أفضل الناس هم من يبلغون هذه المرتبة، وسيوضح بعد ذلك في كتابه «الجمهورية» ما يدور في ذهنه بشأن هذا الموضوع؛ فبعد تلقي التعليم الإغريقي التقليدي في الموسيقى والشعر ومبادئ الرياضيات واللياقة البدنية، يتلقى التلاميذ الأفضل تدريبا عسكريا لمدة عامين أو ثلاثة بشرط أن يتحلوا بالفضيلة والرزانة والمهارة الاستثنائية. ويتابع المتفوقون من بينهم تعليمهم ليقضي كل منهم مدة لا تقل عن عشرة أعوام في دراسة العلوم التي شملت - وقتها بشكل أساسي - الهندسة والحساب والفلك والتوافقيات. ثم يتلقى أفضل هؤلاء تدريبا لمدة خمسة أعوام على الحجاج أو الجدل الفلسفي، وهذه مرحلة دقيقة جدا لأن قدرات التلميذ الجدلية يمكن أن تنحرف إلى المراوغة غير الهادفة أو المضللة. ولهذا السبب تحرص خطة أفلاطون التعليمية الصارمة على أن يتعلم التلميذ أولا أشياء أخرى كثيرة. وبعد ذلك يتلقى الذين تجاوزوا هذه المرحلة تدريبا عمليا في السياسة والإدارة لمدة خمسة عشر عاما. وفي النهاية يكون المتدربون قد وصلوا إلى سن الخمسين وأصبحوا أخيرا مستعدين لإدارة الأمور طالما ثبت أنهم «الأفضل في كل المهام وجميع صور المعرفة ولا يتفوق عليهم الآخرون في الخبرة أو الفضيلة.» وهؤلاء الذين يتفوقون في برنامج الملك الفيلسوف سيقضون معظم حياتهم في البحث في الفلسفة وتطبيقها من ثم في الحكم.

ويقول سقراط إنه بتولية هؤلاء مقاليد الأمور ستتحول المدينة التي يتحدث عنها إلى واقع. فسيكونون في موقع يسمح لهم برؤية ما هو أفضل للإنسان فعلا ومن ثم تطبيقه. ورغم أن هؤلاء الناس - كما رأينا - سيكونون أكثر من مجرد فلاسفة بالمعنى التقليدي فإن سقراط يؤكد على مواهبهم الفلسفية. فهذه المواهب هي آخر ما يتوقع أن يحتاجه أي حاكم صالح، ولكن أفلاطون يرى أنها جوهرية؛ لذا يحاول أن يوضح بشكل أكبر ما المقصود بالمعرفة الفلسفية وما أهميتها وما أثرها على حكم البشر. وهذا ما أدى إلى تعريف الفلسفة المقترح الذي كان في بداية هذا الفصل وإلى توظيف أفلاطون لقصة سجناء الكهف الرمزية الشهيرة.

فالفيلسوف المثالي - في نظر أفلاطون - هو من يتجاوز الأمور الدنيوية ليرى الطبيعة المجردة وغير المتغيرة للأشياء؛ أي المثل. وأمثال هؤلاء من محبي المعرفة بحق لا يصبحون إلا رجالا صالحين بقدر ما توصلوا إليه من معارف؛ لأن جميع الفوائد الناتجة عن المعرفة تتراكم في «عقل معتاد على التفكير في العظمة والزمن والوجود.» فعلى سبيل المثال «ليس لأي نفس وضيعة متعصبة نصيب في الفلسفة الحقيقية»؛ لأن العقل الفلسفي أسمى من تلك النواقص. وعلاوة على أن الفلسفة الحقيقية تشترط الفضيلة وتشجع عليها بطبيعتها فهي تؤدي إلى الخير كذلك بطريقة أخرى أكثر تجردا. فالثابت أن الفلاسفة يتعلمون «الجهاد في سبيل الحقيقة بكل صورها.» وإذا أكملوا رحلتهم المقدسة، فجزاؤهم رؤية قمة الحقيقة الأسمى من المثل وهي صورة الخير أو الجمال ذاته.

بل إن سقراط ذاته لا يمكنه تحديد ما هي تلك الحقيقة بالضبط ولكن يمكنه ذكر بعض معالمها. لقد كان مفهوم «الخير» في لغة ذلك العصر مرتبطا بمدى توافق العمل مع الوظيفة أو الغرض أو الهدف منه. وبشكل عام فإن الشيء يعد صالحا إن أدى دوره المناسب أو حقق الهدف المنشود أو بلغ حد الكمال (أي وصل إلى أقصاه). ومن منظور أفلاطون، يجب أن تكون هناك صورة تقابل الفكرة الكلية للملاءمة، وهذه الصورة هي جوهر «الخير». وبناء عليه سيعرف من رأى هذه الصورة كل ما هو نافع حقا، بمعنى أن من يرى هذه الصورة سيميز الصالح من الخبيث. وبطبيعة الحال سيكون الملوك الفلاسفة الذين تحدث عنهم سقراط نموذجا لمن بلغوا تلك المرتبة. فدراستهم - وبخاصة في الحجاج - ستجعلهم متخصصين في المثل؛ حيث تعتاد أذهانهم على تمييز المثل الأكثر أهمية. «وعندما يرون مثال الخير ذاته فسيتبعونه بوصفه التنظيم السليم للدولة.»

ويتطلع جلوكون وأديمانتوس بشكل منطقي لمزيد من الملاحظات عن هذه الصورة التنويرية، فيضغطون على سقراط ليذكر المزيد من خصائصها. ولكن أفضل ما وضعه بين أيديهم - لسوء الحظ - كان مقارنة غامضة. فقد قال إن صورة «الخير» شأنها شأن الشمس، فأهمية الشمس لحاسة البصر تماثل أهمية صورة «الخير» لملكة العقل. بمعنى أنه مثلما تنير الشمس الأشياء وتجعلها مرئية فصورة «الخير» تجعلها مفهومة.

هناك عدة أسئلة تطرح نفسها بخصوص مقارنة أفلاطون بين الشمس والخير، ولكن الأهم الآن في هذا التشبيه هو أنه يجعل من إدراك النموذج الأفضل مماثلا لإدراكنا الحسي لشيء مادي. وفي نهاية دراستهم للحجاج - البحث، الجدال، التساؤل، التعريف - سيرى الملوك الفلاسفة «نموذج الخير» مباشرة، تماما مثلما يرى بقية البشر الأقل شأنا الشمس مباشرة. فهذه الصورة - كالشمس - موجودة بشكل مستقل عنا وعن آرائنا. كما أنه لا يوجد ما هو ذاتي أو قابل للخطأ في أفكار الملوك الفلاسفة بشأن النموذج الأفضل لمدينتهم؛ فهم يرون الصواب ولا شيء غيره. وبالطبع لا يوجد أحد على هذا القدر من الحكمة وربما لن يتواجد هذا النموذج أبدا، لكن مفهوم نموذج «الخير» الذي يشبه الشمس يقدم لنا صورة تحفزنا على التطلع إليها.

ويقدم سقراط قصة أخرى في هذا الصدد من أجل عقد مقارنة بين المعرفة لدى أولئك الفلاسفة المفترضين وبين آراء عامة الناس (جدير بالذكر أن سقراط اعتبر نفسه واحدا من العامة). وتتناول هذه القصة - واسمها سجناء الكهف - مجموعة من السجناء في غرفة تحت الأرض مقيدين بإحكام بحيث لا يمكنهم إلا النظر إلى صخرة صماء أمامهم، وبعيدا - من خلفهم - تلوح ألسنة نيران تمثل مصدر الضوء الوحيد في الكهف، ويمر أمام تلك النيران الناس حاملين أشياء مختلفة غير مرئية، وهو الأمر الذي يلقي بظلال مضطربة على الجدار أمام السجناء. وقد ظل هؤلاء السجناء مكبلين بالقيود في هذا الوضع طوال حياتهم، وكل ما رأوه مجرد ظلال، فلم يروا قط شيئا حقيقيا بل لم يتصوروا وجوده. يقول سقراط إن هذه الحالة المحزنة هي حال البشر أجمعين، وتمثل الأشياء الحقيقية غير المرئية في هذه القصة المثل التي لا نرى منها إلا ظلالها ونعتبرها الحقيقة. ونحن قد تعودنا على هذه الحال لدرجة أننا إن تحررنا من قيودنا لن ندرك في البداية ما حدث. ويفترض سقراط أن أحد السجناء قد تحرر من أغلاله وأخرج من هذا المكان، عندئذ سيؤذيه الضوء المتوهج ويرغب في بادئ الأمر في العودة إلى الضوء الخافت الذي ألفه، وسوف يكون الضوء باهرا فلا يستطيع تمييز الأشياء. ويقول سقراط: «وإذا سئل ذلك الشخص عن الأشياء المارة أمامه، ألا تعتقد أنه سيشعر بحيرة ويعتقد أن ما رآه في السابق حقيقي قياسا بما يراه الآن؟» والأمر نفسه يسري على البشر في الواقع؛ حيث يريهم نموذج سقراط الأفلاطوني المثل ولكن أعينهم تطرف في ارتباك.

سيكون على السجين المحرر أن يعتاد البيئة المحيطة بالتدريج. في البداية، سيتمكن من تمييز الظلال الناتجة عن الشمس ثم الانعكاسات على سطح المياه، وبعدها يبدأ في تمييز الأجسام الصلبة في العالم الحقيقي. وفي الليل يحدق في الأنوار الخافتة للنجوم والقمر. وقد يصبح نظره بعدها قويا فيتمكن من النظر إلى الشمس، وسيمكنه ذلك من فهم النظام الكلي للأشياء: «عند تلك النقطة سيستنتج أن الشمس ... هي السبب في تنوع فصول السنة وأنها تشرف على كل الأشياء في مجال الرؤية.» وقتها سيدرك أن ما اعتاد على رؤيته سابقا في الكهف مجرد ظلال، وسيشعر بالأسف على رفاقه السابقين في الكهف «وعلى ما فاته من الحكمة هناك.»

وماذا سيحدث إن عاد إلى الكهف راغبا في تحرير زملائه؟ مرة أخرى سيعاني في البداية كثيرا. فهو لم يعد معتادا على رؤية الظلام ولن يتمكن من رؤية ظلال الكهف الباهتة. ومن شأن ظهوره داخل الكهف:

أن يثير ضحك رفاقه وسخريتهم، وقد يقال إنه عاد من رحلته بالأعلى وقد فقد بصره وإنه لا قيمة لمجرد محاولة الصعود، وإن سنحت الفرصة لرفاقه للنيل منه وقتله بعد أن حاول تحريرهم والصعود بهم للأعلى ألن يقتلوه؟

Shafi da ba'a sani ba