72

Mafarkin Hankali

حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة

Nau'ikan

وقد صار اثنان ممن كانوا حاضرين وقت وفاة سقراط - وهم أنتيزينيس الأثيني وإقليدس الميجاري - فيما بعد مؤسسين لمدارس فكرية استمرت آثارها لعدة قرون تالية أو أبوين روحيين لها. ولم تستمر المدرسة التي أنشأها رفيق ثالث لسقراط وهو أرسطيبوس القوريني في ليبيا (حوالي 435-355ق.م.) بالشكل نفسه، ولكن ذلك لم يمثل خسارة كبيرة. وكان ما فعله أرسطيبوس وأتباعه بتعاليم سقراط شيئا من الأهمية بمكان كمثال على أن أتباع سقراط كانوا بسهولة يبالغون فيما تعلموه ويحرفونه.

أرسطيبوس.

لقد تفرغ القورينيون الذين اتبعوا أرسطيبوس للمتعة لكن بطريقة فلسفية غريبة. ففي ظل انبهار أرسطيبوس بالتحكم العقلاني في النفس لدى سقراط حول انضباطه إلى سعي مكرس لإشباع رغباته. وبينما لم يجد سقراط حرجا في الاستمتاع بملذات الحياة - شريطة ألا يتعارض ذلك مع سعيه إلى الفضيلة بالطبع - لم يجد أرسطيبوس داعيا لفعل ما سوى ذلك. وبعد وفاة سقراط أصبح أرسطيبوس مهرجا ملكيا رسميا لديونيسيوس الأول الحاكم المستبد لسرقوسة في صقلية الذي اشتهر بوفاته أثناء شربه الخمر احتفالا بفوزه بجائزة في مسابقة مسرحية.

وقد كان أساس سعي أرسطيبوس نحو المتعة الصاخبة أو ما سواها على ما يبدو صادقا، وكان اتباعا لمذهب سقراط في جزء منه. وكما هو الحال مع معظم أصحاب الفضيلة يحذر سقراط من أن يصبح الإنسان عبدا لرغباته. ويتفق أرسطيبوس مع هذا الكلام، ولكن تفسيره المبتدع له يعني فرض السلطة على هذه الرغبات بجعلها تعمل وقتا إضافيا لحسابه. وقد جعله هذا سعيدا، ولكن ما العيب في السعادة على أية حال؟ ألم يعد سقراط بالسعادة بوصفها حافزا على الفضيلة؟ فلا حرج في ذلك إذن.

لقد قدم سقراط تعريفا مغلوطا عن السعادة بأنها حالة من الإشباع الروحي يسببه العيش النبيل. هنا سعى أرسطيبوس للاختلاف بكل قوته؛ فحسب قوله فإن السعادة التي ينبغي للإنسان أن يسعى إليها هي المتعة الجسدية حيث اعتبر أن هذه المتعة هي المعيار الوحيد الصالح لمعرفة ما هو الصالح وما هو الطالح بشكل عام. ويبدو أنه اعتقد أنه لا يمكن الحصول على معرفة معينة بأي شيء سوى حواس الإنسان نفسه، وهي فكرة فلسفية دافع عنها الكثيرون في ذلك الوقت؛ لذلك فإن الإحساس باللذة - والذي كان بلا ريب شيئا جيدا بطريقة ما حتى إن لم يكن هناك سواه - ربما كان الشيء المنطقي بالنسبة للفيلسوف ليركز عليه في ظل عالم ملتبس.

ولذلك فقد كان السعي وراء الملذات أمرا جادا، وكانت وظيفة الفيلسوف أن يطوع رغباته وظروفه لمضاعفة إحساسه باللذة، وأن ينقل الحكمة من أسلوب العيش هذا إلى الآخرين (الذين وجب عليهم بطبيعة الحال أن يدفعوا مقابلا لتلك النصيحة القيمة). لقد تطلب الأمر ضبط النفس ليتمكن سقراط من إنجاز هذه المهمة بشكل صحيح، أو هكذا ظن أرسطيبوس، وكان من المهم ألا تصرفه مساعي الآخرين التي قد تلهي الإنسان عن المطلب العملي الواضح والوحيد في الحياة وهو المتعة. ولم تكن الرياضيات والعلوم مثلا ذواتي فائدة وكان ينبغي تجاهلهما. وهنا يمكن استرجاع مثال سقراط مرة أخرى بصعوبة. ألم يكن يبحث بلا انقطاع في كيفية الحياة السليمة على حساب كل القضايا الأخرى؟

كان سقراط ليستمتع بتعريف أرسطيبوس والقورينيين الآخرين كيف أنهم مخطئون، وكان ليرغب مثلا في معرفة ماذا حدث للعدالة والفضائل الأخرى التي دعا إليها. كما كان ليرفض كذلك أفكار الكلبيين رغم أنها كانت مثيرة للاهتمام. فعلى غرار القورينيين سرق أنتيزينيس (حوالي 445-360ق.م.) ومن تبعه من الكلبيين بعض الأفكار التي تلقوها من سقراط وأخرجوها من سياقها. وقد وصف أفلاطون ديوجين الكلبي، وهو أحد أتباع أنتيزينيس، بأنه «سقراطي فقد عقله.» ولكن الكلبيين حافظوا على ميراثهم من سقراط بشكل أفضل من أرسطيبوس، وكان مذهبهم بالفعل على النقيض تماما من الانغماس القوريني.

أنتيزينيس.

لقد رأى أنتيزينيس مثل أرسطيبوس أن قوة سقراط العقلية كانت ضرورية للسعي نحو السعادة؛ وهنا ينتهي الاتفاق بينه وبين أرسطيبوس حيث آمن أنتيزينيس أن السعادة لا توجد في إشباع الرغبات كما اعتقد القورينيون بل في فقدانها؛ فقد انبهر أنتيزينيس بعدم اكتراث سقراط بالثروة والنعيم، وحول هذا إلى فلسفة زاهدة ترحب بالفقر، فقد قال سقراط على أية حال إن الرجل الصالح لا يمسه سوء. وقد استنتج أنتيزينيس أنه ما دام الإنسان قد ظل صالحا فلا شيء يهم في الحياة بعد ذلك. ولا ريب أن هذا القول يتجاوز سقراط الذي لم ينكر أبدا أن امتلاك الثروة أو الأملاك إن وضعت في موضعها السليم خير من عدمه، فقد كان عدم اكتراثه الظاهر بهما - بخلاف شرود الذهن - نتيجة ثانوية للسعي الحثيث نحو الفضيلة وسلامة الروح.

وبينما كان سقراط على استعداد لتجاهل العادات والقيم التقليدية إذا تطلبت مبادئه ذلك، بدا أنتيزينيس وكأنه يسعى نحو اللاتقليدية في حد ذاتها، فإذا كان هناك ما ليس بعمل فاضل ولا شرير، فلا فرق إذا قام الإنسان بهذا العمل أو امتنع عنه. ويمكن تصور تلك الفكرة كإرشادات فعالة ليصبح الإنسان غريب الأطوار. فالرجل الحكيم بتحرره من الرغبة في التملك ومن السلوك المألوف، يمكنه أن يسير في الأرض مهاجما عادات المجتمع الحمقاء وأن يميز نفسه عموما. وكان أنتيزينيس يعزي نفسه بمعرفته أن القيم المألوفة لا تساوي شيئا ومختلفة تماما عن القيم الطبيعية للحياة السليمة. ولسوء الحظ لم يتضح قط ما هي القيم الطبيعية وما هي الفضيلة الحقيقية، فأنتيزينيس كان يجيد انتقاد ما لا يدخل في خصائصهما.

Shafi da ba'a sani ba