Mafarkin Hankali
حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة
Nau'ikan
لقد سعى سقراط إلى الفضائل لأنه أحس أنه ملزم بذلك فورا دون تسويف؛ فالحياة الدنيوية تفرض واجباتها الخاصة وتمن بنعمها الخاصة، وهي ببساطة ليست استعدادا لشيء آخر . وقد كانت دوافع أفلاطون أقل استقامة لأنه وضع نصب عينيه شيئا أبعد. وكان المعتقد المشترك بين الرجلين هو أن السعي إلى الخير لم يكن محض أفعال معينة ولكنه عمل عقلي أيضا، ولكن كلا منهما رأى هذا العمل بشكل مختلف؛ فقد اعتقد سقراط أن فهم الفضائل شرط واجب للحصول عليها، فلا يستطيع المرء أن يكون فاضلا بحق إلا بمعرفته ما هي الفضائل، والوسيلة الوحيدة للحصول على هذه المعرفة هي دراسة الآراء المتعلقة بالفضائل المختلفة، وهذا ما دفع سقراط إلى أن يسأل الناس ويجادلهم. أما أفلاطون فقد آمن بهذا البحث الجدلي ولكنه فسره أيضا بأنه شيء روحي تقريبا. وبينما رأى سقراط أن البحث عن تعريفات الفضائل هو وسيلة إلى غاية معينة هي ممارسة الفضيلة، رأى أفلاطون أن البحث هو غاية في حد ذاته؛ فالبحث عن التعريف بالنسبة لأفلاطون كان سعيا وراء الصورة المثالية الأبدية الثابتة لما يخضع للمناقشة، والتأمل في هذه المثل هو قمة الصلاح. وهذا ما رأى أن أسئلة سقراط قد بلغته، وما كان ينبغي أن تسعى إليه.
والفلسفة بالنسبة لأفلاطون هي السلم لهذا العالم السامي من المثل، ولكن ليس كل شخص بقادر على صعوده؛ فدرجاته العلى محفوظة لمن يتمتعون بمهارة الحجاج الجدلي، وهم صفوة مثل واضعي الأديان أو الفيثاغوريين الذين اطلعوا على أسرار أستاذهم. أما سقراط فقد تبنى مذهبا يميل إلى المساواة بين المعرفة والفضيلة؛ فالحياة التي لم تخضع للاختبار - كما قال في مرافعة دفاعه الشهيرة - لا تستحق أن تعاش، وهذا ليس أمرا مقضيا قصد من خلاله إدانة الجميع عدا قلة مختارة؛ فكل فرد لديه القدرة على تمحيص حياته وأفكاره وأن يعيش حياة ذات قيمة. وكان سقراط يسعد بسؤال أي شخص - من صناع الأحذية وحتى الملوك - ومجادلته، وكان هذا كل ما تعنيه الفلسفة بالنسبة له. ولم يجد أية أهمية تذكر لمثل أفلاطون أو المهارات النادرة اللازمة لاكتشافها.
وكان من بين الأشياء التي قادت أفلاطون إلى المثل الغامضة ولعه بالرياضيات، وهذا مظهر آخر من مظاهر تأثره بفيثاغورس والفيثاغوريين، وتلك إحدى نقاط اختلافه عن سقراط. وقد ورد أن أبواب أكاديمية أفلاطون كتب عليها أنه «لا يقبل الجاهلون بالهندسة هنا.» وشكا أرسطو من أن «الرياضيات أضحت كل الفلسفة» بالنسبة لأتباع أفلاطون، وهي مبالغة فظة ولكنها هادفة. فما جذب أفلاطون في الأشياء التي تتعامل معها الهندسة مثل الأعداد والمثلثات، هو أنها مثالية وأبدية وثابتة ومستقلة بشكل ممتع عن الأشياء المرئية على وجه الأرض، فلا أحد يستطيع أن يرى الرقم أربعة أو يلمسه؛ لذا فهو موجود في عالم من نوع آخر وفقا لأفلاطون. كما أن الخطوط والمثلثات وغيرها من الأشياء التي تظهر في الإثباتات الرياضية لا يمكن إيجادها هي الأخرى فيما هو مادي، فلا تتعدى بعض الخطوط والمثلثات المادية كونها تقريبا لنظائرها الرياضية المثالية؛ فالخط المثالي على سبيل المثال ليس له سمك على عكس أي خط مرئي أو حافة جسم مادي. وقد استنتج أفلاطون أنه بناء على إعجاز علم الرياضيات، فإن أنواعا أخرى من المعرفة يجب أن تقتفي أثرها وأن تهتم بالأشياء المثالية والمعنوية أيضا. وهذه الأشياء التي تختص بها المعرفة هي المثل.
لقد استخدم أفلاطون في إحدى محاوراته مثالا هندسيا ليبرهن على أن معرفة المثل - والتي تعني جميع أصناف المعرفة المهمة بالنسبة له - تكتسب قبل الولادة؛ فحقائق العقل البحت - مثل قوانين الرياضيات - لا تكتشف من جديد، وإنما تسترجع بعناء من حياة سابقة عاشت فيها الروح بلا جسد واستطاعت أن تواجه هذه المثل مباشرة؛ ولذلك فإن الإنسان لا يتعلم هذه الحقائق بالمعنى الحرفي على الإطلاق بل يجتهد في تذكرها. وعندما تنفخ الروح في الجسد فإن المعرفة التي تمتعت بها في السابق تضيع من الذاكرة مثلما كتب وردزورث في قصيدته «إرهاصات الخلود» أن «ولادتنا ما هي إلا غفلة ونسيان.» ولم يكن وردزورث يفكر في الهندسة على وجه الخصوص ولكنه أعجب بالفكرة العامة. ولتوضيح هذه النظرية جعل أفلاطون «سقراط» يستخرج بعض المعلومات الهندسية البدهية من عبد غير متعلم، وهذا لتأكيد الفكرة الأفلاطونية التي تقول إن المعرفة تسترجع من حياة سابقة، ولبيان أن تدريس سقراط كان مثل التوليد كما ادعى سقراط نفسه.
كانت المشكلة التي وضعها «سقراط» للعبد هي تحديد أضلاع مربع معلوم المساحة؛ فبدأ برسم مربع يبلغ طول أضلاعه قدمين ومساحته من ثم ستكون أربعة أقدام مربعة، ثم سأله عن طول الأضلاع إذا أصبحت المساحة ثمانية أقدام مربعة. في البداية استنتج العبد خطأ أن الأضلاع يجب أن يكون طولها ضعف ما كان عليه في المربع الأصلي؛ أي أن يكون طولها أربعة أقدام. وبرسم آخر يوضح «سقراط» سريعا أن الإجابة خاطئة بالتأكيد؛ لأنه في تلك الحالة ستكون مساحة هذا المربع ستة عشر قدما مربعة بدلا من ثمانية. لقد تفاجأ العبد بأنه لا يمتلك من المعرفة ما ظن أنه يعرفه. ويشير «سقراط» إلى أنه في هذه المرحلة «قدمنا مساعدة ما لهذا العبد في إيجاد الإجابة الصحيحة؛ فهو لا يجهلها الآن فحسب بل سيكون سعيدا إذا بحث عنها.» وبعد ذلك بمساعدة رسومات أخرى وبطرح الأسئلة الصحيحة بخصوصها دفع سقراط العبد تدريجيا إلى اكتشاف الإجابة بنفسه؛ فطول أضلاع المثلث الذي تبلغ مساحته ضعف مساحة المثلث الأصلي سيساوي طول ضلع المثلث القطري في المربع الأصلي، وهذا ما يتلخص من ثم في نظرية فيثاغورس الشهيرة. ولكن لأن سقراط لم يخبر العبد بذلك قط فقد كان العبد «يعرفها» بالضرورة.
ولا يبرهن هذا الموقف البسيط بالقطع على نظرية التذكر لدى أفلاطون كما اعترف أفلاطون نفسه. ولكن الرواية توضح نظرية مختلفة لسقراط حول المعرفة وكيفية نقلها؛ فأسئلة سقراط للعبد كانت إرشادية (وقد ساعدت الرسومات أيضا)، ولكن مع ذلك صحيح أن العبد توصل إلى الإجابة بنفسه فلم يقدم إليه الجواب ببساطة، كما يمكن إخبار الفرد بمساحة فناء ما أو باسم عاصمة اليونان. لقد أدرك العبد شيئا من خلال قدراته العقلية الخاصة؛ وبذلك يستطيع سقراط بسهولة أن يدعي كعادته أنه لم يقدم أية معلومات بنفسه، ولكنه مثل القابلة يستخرج المعلومات من الآخرين. وثمة شيء آخر، فكما قال سقراط إنه لكي يعرف العبد هذه المعلومة الرياضية بشكل جيد فلا يكفي أن يتناول المثال مرة واحدة فقط فيقول:
إن آراء العبد التي تكونت حديثا مشوشة مثل الحلم، ولكن إذا طرحت عليه الأسئلة ذاتها في عدة مواقف وبطرق مختلفة؛ فستجده في النهاية يمتلك معلومات دقيقة عن هذا الموضوع مثل أي شخص آخر ...
ولا تأتي هذه المعلومات بالتلقين ولكن بالاستجواب، وسيسترجعها العبد بنفسه.
وهناك حاجة ملحة إلى تكرار استجوابات سقراط. بعبارة أخرى ، ما يحتاجه العبد هو المعاملة ذاتها التي قدمها سقراط الحقيقي إلى أهل أثينا الجاحدين. وكما يقول سقراط في «الدفاع» لو أن أحدا ادعى الصلاح «لسألته واختبرته.» لذلك ففي قصته الخيالية عن التذكر الذي عاونه عليه، يقدم أفلاطون توضيحا لما كان يفعله سقراط عندما ادعى مساعدة الآخرين على إبداء آرائهم، وكأن سقراط كان يثبت بعض المعرفة الموجودة بالفعل.
ما أجمل كل هذه الحقائق عن مثال أفلاطون عن المثلثات والمربعات التي أحبها؛ فليس من الصعب تصديق أن المستجوب الموهوب يمكنه أن يعلم تلميذه حقيقة رياضية دون أن يذكرها له صراحة، وسيدرك ذلك من كان له معلم جيد يوما. ولكن ماذا عن مسائل العدالة والقيم الأخرى التي اهتم بها سقراط الحقيقي؟ فالأخلاق أصعب في التناول من الرياضيات، فمن جهة لا يبدو أن لديها براهين لتقدمها؛ لذا فمن المفترض أن الاشتغال بتعلم الأخلاق مختلف تماما عن الاشتغال بتعلم الرياضيات.
Shafi da ba'a sani ba