Mafarkin Hankali
حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة
Nau'ikan
وعندما شعر سقراط أن خصمه بدأ يضعف زاد من الضغط عليه، فحتى وإن اعتبر بروتاجوراس المجانين والحالمين حالة خاصة - فضلا عن حالات الإدراك الخاطئ التي تقل في الأهمية - فبماذا يرد بروتاجوراس على الاعتراض الذي يقول إنه إذا كانت النسبية حقيقة فهذا يلغي وظيفته؟ وكما يقول سقراط في مناسبة أخرى:
إذا كان بروتاجوراس محقا في أن حقيقة الأشياء هي ما تظهر عليه لكل إنسان، فكيف يكون أحدنا حكيما والآخر أحمق؟ وإذا كان ما يظهر لكل إنسان هو صحيح بالنسبة له فلا رجل أكثر حكمة من الآخر.
بعبارة أخرى، كيف يمكن لبروتاجوراس أن يعلم الحكمة إذا لم تكن موجودة من الأساس؟
أراد سقراط أن ينصف بروتاجوراس فبين له كيف يرد على هذا الاعتراض. وتقودنا هذه الإجابة إلى قلب الفكر والممارسات السفسطائية. يتصور سقراط أن بروتاجوراس يجيب بأن السفسطائي الحكيم لا يعرض تعليم التلاميذ أية معتقدات أصح بأي شكل من معتقداتهم؛ إذ إن ذلك سيكون مستحيلا إذا صحت النظرية النسبية، بل عليه أن يعلمهم معتقدات أنفع لهم وأجدى. فمثل السفسطائي كمثل الطبيب يعالج عقول الناس بدلا من بطونهم، ويعلم الآخرين كيف يفعلون ذلك أيضا، فمن الأجدى والأنفع أن يتبنى المرء أفكارا بعينها، وهذا ما يقدمه السفسطائيون.
وفي نهاية القرن التاسع عشر حاول مجموعة من الفلاسفة الأمريكيين - أطلقوا على أنفسهم اسم البرجماتيين - أن يطوروا فكرة أن الشيء المهم في المعتقدات هو فائدتها العامة ودورها في الحياة. وأوضح البرجماتي الكبير ويليام جيمس (شقيق هنري جيمس) هذه الفكرة بشكل يذكرنا بما قاله سقراط على لسان بروتاجوراس. ورغم أن جيمس لم يتوصل إلى أن الحقيقة نسبية فقد رأى أن أفضل طريقة لتحديدها تبنى على المنفعة بالمعنى العام لها، فقال في ذلك:
إن كل شيء يثبت أنه صالح في ظل المعتقدات السائدة في عالمنا هو شيء حقيقي، فكما أن هناك أطعمة معينة لا تناسب حاسة التذوق لدينا فحسب، وإنما تفيد أسناننا وبطوننا وأنسجتنا، فهناك كذلك أفكار لا يمكن التفكير فيها واستخدامها لدعم ما يروق لنا من الأفكار الأخرى فحسب، بل يمكننا كذلك الانتفاع بها في الكفاح العملي في الحياة. وإذا كان ثمة حياة أفضل ينبغي أن نسعى إلى تحقيقها، وإذا كانت هناك فكرة تساعد على ذلك إذا اعتنقناها؛ فمن الأفضل لنا أن نؤمن بهذه الفكرة إلا إذا تعارض الإيمان بها بالمصادفة مع منافع أخرى أكبر وأكثر حيوية.
إن المعتقدات التي يبدو هذا التفسير البرجماتي مناسبا لها - ولو في الظاهر على الأقل - هي المعتقدات التي تتعلق بالأمور العملية الخاصة بالبشر كالسياسة والأخلاق. ويستمر سقراط في إيضاح كيف يمكن لبروتاجوراس أن يدافع عن نفسه في هذا الموضوع فيقول:
إن الخطباء الحكماء والشرفاء في المجتمع يستبدلون الآراء السليمة (بمعنى «الصحية» أو «النافعة») بالآراء الخاطئة لما هو صحيح؛ فأنا أومن أن كافة الممارسات التي تبدو صحيحة وقابلة للتطبيق في دولة ما تعتبر صحيحة بالنسبة لهذه الدولة طالما تمسكت بها، أما عندما تصبح هذه الممارسات خاطئة في حالة معينة فإن الرجل الحكيم يستبدل بها ممارسات أخرى سليمة. وبالمبدأ نفسه يتصف السفسطائي، بما له من قدرة بالأسلوب نفسه على إرشاد تلاميذه إلى الطريق الذي يتعين عليهم اتباعه، بالحكمة ويستحق أجرا مناسبا عليهم عندما ينتهي من تعليمهم. وبهذه الطريقة يكون كلا الأمرين صحيحا؛ فهناك من هم أكثر حكمة ممن سواهم، وكذلك ليس ثمة رجل أحمق في تفكيره. وهذه الاعتبارات تنقذ عقيدتي من الانهيار.
ويجب على السفسطائي أن يوظف قدراته البلاغية ليجعل الرؤية النافعة أو «الصالحة» مقبولة في المجتمع بوصفها الرؤية الصحيحة أو العادلة؛ ولذا يبدو في هذه النسخة من عقيدة بروتاجوراس أن النسبية تنطبق على بعض الأشياء دون غيرها، فهي تنطبق على العدالة والشرعية الأخلاقية؛ (إذ إن «كافة الممارسات التي تبدو صحيحة وقابلة للتطبيق في دولة ما تعتبر صحيحة بالنسبة لهذه الدولة») ولكن ليس على ما هو نافع ومفيد في جوهره، (فأحيانا ما تكون آراء المجتمع «غير صالحة له»). ويمكن تشبيه الأمر هنا بالمريض وطعامه؛ فكل إنسان على صواب فيما يخص مذاق طعامه بالنسبة له، ولكن إحساسه قد يكون مع ذلك «خاطئا» بمعنى أنه قد يكون هذا الطعام أفضل له إن كان مختلفا. وعلى أية حال هذا ما تصور سقراط أن بروتاجوراس يقوله.
لاحظ كيف تبدل موضوع النسبية تدريجيا من الفرد إلى «الدولة»، فلم يعد الأمر يتعلق بما يراه كل فرد في العدالة صحيحا بالنسبة له، بل بما تظنه كل دولة أو مجتمع صحيحا بالنسبة لتلك الدولة أو ذلك المجتمع. إن الجماعات وليس الأفراد هي ما لا تخطئ في ممارساتها الأخلاقية والسياسية ما دامت تتمسك بها. ويثير هذا التحول مزيدا من المشكلات المزمنة في النسبية، فكم عدد الأفراد الضروريين لتكوين مجتمع كبير يصلح لحماية النسبية؟ وإلى أي مدى ينبغي لهم أن يتفقوا فيما بينهم ليصيروا مجتمعا موحدا؟ وماذا إذا لم يتفق فرد واحد فقط أو قليل من الأفراد مع رأي البقية؟ وهل يجب اتهام هؤلاء المنشقين بسوء فهم فلسفي إذا قالوا إن الأغلبية خاطئة فيما يخص الخير والشر كما تقول النظرية النسبية، أم أنهم يعدون مجتمعا صغيرا يستحق نصيبا من الحقيقة المؤكدة في ظل إعادة التوزيع السخي للنتاج الفكري في ظل النسبية؟
Shafi da ba'a sani ba