Mafarkin Hankali
حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة
Nau'ikan
يرى الذريون أنه يمكن الاعتماد على الحواس «الزائفة» للتأكد من وجود عالم من الأشياء المعتادة المتحركة، وقد أخطأ بارمنيدس بإنكاره لهذا العالم، إلا أن العقل وحده يمتلك من الثقة والقوة ما يمكنه من كشف الحقائق الأعمق عن الأشياء ألا وهي أنها في أصلها تتكون من ذرات معدومة الألوان. وقد توصل العقل إلى هذه الحقيقة بالتفكر في الحجج التي ساقها الآخرون مثل زينون وبارمنيدس وتقييمها والبناء عليها.
وتتشابه الصورة التي نتجت عن كل ذلك مع الصورة التي رسمها جاليليو تشابها مذهلا، فيقول جاليليو في فقرة يستشهد غالبا بالصورة العلمية التي ترسمها للعالم والتي يفترض أنها صورة جديدة:
كلما أدركت أي شيء ... أو أية مادة، شعرت في الحال بالحاجة للتفكر فيها ... بأي شكل من الأشكال هي؟ وهل هي كبيرة أم صغيرة؟ وفي أي مكان توجد وفي أي وقت؟ وهل هي في حالة حركة أم في حالة سكون؟ وهل تتلامس مع أي جسد آخر أم لا؟ وهل تتكون من رقم واحد أم من أرقام قليلة أم كثيرة؟ ... لكن ذهني لا يشعر بضرورة إدراج مصاحبات أخرى كأن يكون لونها أبيض أو أحمر وطعمها حلوا أو مرا وصوتها مزعجا أو صامتا ورائحتها زكية أو منفرة. يحتاج العقل أو الخيال لإرشاد من الحواس وإلا فغالبا ما سيعجز بدونها عن التوصل لمثل تلك الصفات. ومن ثم أظن أن المذاقات والروائح والألوان وغيرها ليست سوى أسماء عند الحديث عن الأشياء التي ننسبها إليها، وأنها لا تقبع إلا في إدراكنا، فإذا أبعدنا الكائن الحي زالت كل تلك الصفات وفنيت.
كان ديموقريطس سيوافق تماما على كل هذا (ما لم يمل إلى اعتباره سرقة أدبية). وأخيرا في القرن السابع عشر آن الأوان لتلك الفكرة أن ترى النور إذ قام روبرت بويل (1627-1691م) - وهو أحد علماء الفيزياء والكيمياء الأيرلنديين الذين تبنوا فكر «الفلسفة الذرية بعد أن أصلحها وطهرها من أوهام مخترعيها الأوائل وشططهم» - بوصف المادة من خلال ما سماه بالصفات «الأساسية» و«الثانوية» للأشياء. أما الصفات الأساسية فهي الحجم والشكل والترتيب والقوام والصلابة وحركة الجزيئات؛ فهذه هي الصفات التي يحتاجها العالم ليفسر أية ظاهرة من ظواهر الطبيعة. ولذلك حاول بويل أن يفسر الحرارة والالتحام والسيولة والصلابة واللون وغير ذلك من الصفات في إطار الصفات الأولية لديه، وحقق في ذلك نجاحا كبيرا فاق ما حققه ديموقريطس. ثم طور الفيلسوف جون لوك (1632-1704م) على هذا الأساس نظرية مفصلة بعيدة الأثر بين فيها خمس صفات أساسية وهي: الحجم والشكل والعدد والصلابة والحالة من حيث الحركة أو السكون، وقال كذلك إن الصفات الثانوية الحسية مثل اللون أو الرائحة «ليست بصفات في الأشياء ذاتها وإنما قوى تخلق فينا أحاسيس متنوعة من خلال الصفات الأساسية.» ولا تزال العلوم الحديثة تحتفظ بفكرة مجموعة الصفات الأساسية القابلة للقياس بدقة والتي يمكن من خلالها تفسير كل شيء (رغم أن قائمة هذه الصفات اليوم تختلف عن قائمتي بويل ولوك). أما مع جاليليو فلا يمكننا أن نتأكد بسرعة من أن الصفات الحسية كالألوان «محض أسماء» تنعدم في حالة غياب من يدركها. ولا يزال الناس مختلفين حول إذا ما كان ذلك قولا مضللا.
ثمة شيء واحد اختلف فيه علماء عصرنا مع ديموقريطس - كما اختلف فيه معه من قبل جاليليو وبويل ولوك - وهو أن الحواس «الزائفة» لا تلعب دورا حقيقيا في التعرف على العالم. فعلى العكس تماما، تدخل الحواس بدرجة كبيرة أو صغيرة في تجميع الأدلة واختبارها في كل النظريات الفيزيائية المحترمة. ولتجنب المبالغة في التشبيه بين أفكار الفيزياء الحديثة وأفكار ديموقريطس حري بنا أن نذكر إلى أي مدى حملت الأدلة التجريبية النظرية الذرية الحديثة بعيدا عن معتنقيها القدماء. إن الذرات التي هي موضع دراستنا في العصر الحديث ليست هي ذاتها الذرات التي تحدث عنها ليوكيبوس وديموقريطس رغم أنها من نسلها. أولا الذرة الحديثة ليست خالدة أو غير قابلة للتدمير أو صلبة أو غير قابلة للانقسام، بل إنها تتكون بفعل العمليات الطبيعية، وتتحلل وتتكون في معظمها من مساحة خالية (فهي مجموعات ضخمة من الإلكترونات تحيط بنواة صغيرة وغليظة) ويمكن «شطرها» وإعادتها إلى مكوناتها. وقد خلت كتابات ديموقريطس من أية إشارة لمعظم أهم الصفات والقوى المستخدمة لوصف سلوك الذرات؛ فهو مثلا لم يعرف شيئا عن الشحنات الكهربية التي يتناقض سلوكها تماما مع ما توقعه الإغريق القدماء، مما يزيد الأمر سوءا؛ ففي عالم الكهرومغناطيسية المتماثلان لا ينجذبان بل يتنافران.
وقد تطول قائمة الاختلافات بين المذهب القديم والحديث ولكنها قد تخدع أيضا، وعلى المرء إذن أن يحذر من الانخداع باختلافات زائفة ناتجة عن مصادفة في استخدام المصطلحات. على سبيل المثال، دأب مؤرخو العلوم على الإشارة إلى أن الذرة لدى ليوكيبوس وديموقريطس تتميز اصطلاحا بأنها لا تقبل الانشطار بينما يعلم الجميع الآن أن ما نسميه «ذرة» قد انشطرت ولم تعد تمثل العنصر الأساسي المكون للمادة، فقد أصبح لدينا بدلا منها جزيئات أساسية أصغر حجما تنقسم إلى فئتين: الكوارك واللبتون، ولكن ذلك فيه ضلال كبير ولا يثبت أن الفكرة الرئيسة لدى الذريين القدامى خاطئة. فعندما اتضح أن ما نسميه ب «الذرة» ليس في النهاية هو المكون الرئيس للمواد، لم يعكس هذا سوى استعجال علماء الفيزياء في العصر الحديث بتسمية تلك الجزيئات باسم «الذرة». لقد أطلق علماء القرن التاسع عشر اسم «الذرة» على الجزيئات التي درسوها لأنهم اعتقدوا خطأ (كما اتضح بعد ذلك) أن تلك الجزيئات لا تقبل الانشطار. ولا يمكن دحض نظرية ليوكيبوس وديموقريطس عن النظرية الذرية ما لم يثبت أنه ليس ثمة جسيمات أساسية لا تقبل الانشطار أيا كان اسمها، وهو أمر لا يزال قيد البحث. إلا أن أهمية هذا الأمر تصير غير ذات صلة يوما بعد يوم. فقد عفى الزمن على فكرة الجسيم في الفيزياء الحديثة؛ فلم يعد له مكان فيها. وقد أصبحت الجسيمات أقرب صلة بالقوى والمجالات، وفي بعض الأحيان لم تعد تمثل أكثر من محض وسيلة للتعبير. وقد قيل في أحد التفسيرات المعاصرة : «تمثل الجسيمات الأساسية بأنواعها المختلفة حزما من الطاقة وقوة دافعة لأنواع المجالات المتوافقة معها.» •••
وتتضح الحداثة غير الناضجة لدى ليوكيبوس وديموقريطس عند النظر في رؤيتهما للكون ككل ومكانة الإنسان فيه، وليس في تفاصيل ما قالاه عن التراكيب الدقيقة للمادة. لقد رأيا كونا شاسعا متجردا غير محدود يختلف تماما عن الكون الدافئ والإنساني الذي صوره أفلاطون وأرسطو وأورثاه على مر السبعة عشر قرنا الأولى من الحقبة المسيحية. وقد كان على الذريين أن يفسروا قيام النظام والحياة من الذرات الفوضوية المتدافعة فطرحوا تصورا لكون لانهائي يقبل العقل أن يتصور قيام كل أنواع العوالم فيه لشدة اتساعه فقالوا:
هناك عوالم بلا شمس ولا قمر، وهناك عوالم يكبر الشمس والقمر فيها عن الشمس والقمر في عالمنا، وهناك من العوالم ما فيه العديد من الشموس والأقمار. وتختلف الفترات الزمنية بين كل عالم وآخر، حتى إن هناك أجزاء تحفل بالكثير من العوالم، وأجزاء لا تضم إلا القليل. وبعض العوالم لا تزال تنمو، وبعضها بلغ ذروته، وبعضها آخذ في الصغر. وتدمر تلك العوالم عند اصطدام بعضها ببعض. وهناك من العوالم ما لا كائن حيا فيه ولا نبات ولا رطوبة.
وبناء على هذا ما عالمنا إلا واحد من عدة احتمالات أتت به الظروف المناسبة لقيام الحياة (وكلمة «عالم» هنا تعني تقريبا كوكبا أو مجموعة كواكب)؛ ذلك أن الذرات كما قال عنها لوكريتيوس:
قد اعتادت منذ الأزل وحتى يومنا هذا الحركة والالتقاء بشتى الطرق وتجربة كل التركيبات وأي شيء يمكنها صنعه من تجمعها معا؛ ولهذا حدث أن تلك الذرات إثر انتشارها بالخارج على مر الزمن ومحاولتها أن تتجمع وتتحرك بشتى الطرق قد التقت في النهاية، وهذا هو ما صنع بدايات الأشياء الضخمة كالأرض والبحر والسماء وخروج أجيال من الكائنات الحية.
Shafi da ba'a sani ba