Hikmat Gharb (Sashi na Farko)
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
Nau'ikan
وهكذا فإن أيا من المحاولات المادية الرامية إلى الرد على نقد بارمنيدس لا يمكن، حتى هذه المرحلة، أن تعد مرضية من جميع الجوانب؛ فمهما كانت نقاط الضعف في النظرية الأولية ذاتها، يظل من الصحيح أن مجرد إكثار من المواد الأساسية لا يمكن أن يقدم إلينا حلا، وقد أمكن التدليل بقوة على هذه النقطة عن طريق سلسلة من الحجج تقدم بها أتباع بارمنيدس، وعلى رأسهم زينون، الذي كان ينتمي إلى بلد بارمنيدس ذاتها، وكان تلميذا له. وقد ولد زينون حوالي عام 490ق.م. والشيء الهام الوحيد الذي نعرفه عنه، إلى جانب كونه قد اهتم بالشئون السياسية، هو أنه هو وبارمنيدس قد قابلا سقراط في أثينا. وهذه واقعة يرويها أفلاطون، وليس ثمة سبب يدعو إلى تكذيبه.
إن النظرية الإيلية - كما أوضحنا من قبل - تؤدي إلى نتائج مذهلة، ولهذا السبب بذلت عدة محاولات لإصلاح عيوب المذهب المادي. ولقد كان ما حاول زينون القيام به هو أن يبين أنه إذا كان المذهب الإيلي يصدم الحس العادي للإنسان، فإن النظريات المنافسة له، التي تزعم تذليل هذه العقبة، تؤدي إلى صعوبات أغرب. وهكذا فإنه، بدلا من أن يقدم دفاعا مباشرا عن بارمنيدس، تصدى للمعارضة على أرضها، وهو يبدأ باتخاذ موقف الخصم، ثم يبين بالحجة الاستدلالية أن هذا الموقف ينطوي على نتائج ممتنعة، ومن ثم فمن المحال الدفاع عن الموقف الأصلي، وبذلك يسقط هذا الموقف.
هذا النوع من الحجج مشابه لبرهان الخلف
reduction ad absurdum
الذي تحدثنا عنه عند الكلام عن نظرية التطور عند أنكسيمندر. غير أن بينهما اختلافا هاما؛ ففي برهان الخلف المألوف يستدل المرء من بطلان النتيجة على أن إحدى المقدمات لا بد أن تكون باطلة. أما زينون فقد حاول أن يثبت أن من الممكن استخلاص نتيجتين متناقضتين من افتراض معين، وهذا يعني أن النتيجتين ليستا باطلتين فحسب، بل هما مستحيلتان. وهو يستنتج من ذلك أن الافتراض الذي تلزم عنه هاتان النتيجتان هو ذاته مستحيل، هذا النوع من الحجج يسير في طريقه دون أية مقارنة بين النتائج والوقائع، ومن ثم فهو بهذا المعنى جدلي تماما، أي إنه ينتمي إلى ميدان السؤال والجواب. والواقع أن زينون كان أول من استخدم الحجة الجدلية بطريقة منهجية. وكان لهذه الحجة دور عظيم الأهمية في الفلسفة، وقد اقتبسها سقراط وأفلاطون من الإيليين وطوراها بطريقتهما الخاصة، ومنذ ذلك الحين أصبحت لها مكانة هامة في الفلسفة.
لقد كانت حجج تزينون في أساسها هجوما على التصور الفيثاغوري للوحدة، وترتبط بذلك حجج ضد الفراغ وضد إمكان الحركة.
فلنتأمل أولا حجة تثبت عدم صحة فكرة الوحدة، إن تزينون يقول إن كل ما يوجد لا بد أن يكون له حجم، وإلا لما وجد أصلا، فإذا سلمنا بذلك، كان من الضروري أن نسلم به بالنسبة إلى كل جزء، بحيث يكون من الضروري أن يكون لهذا الجزء بدوره حجم. وهو يمضي قائلا إن إصدار هذا الحكم مرة يساوي إصداره بصورة دائمة. وتلك طريقة مبسطة في إدخال فكرة قابلية الانقسام إلى ما لا نهاية؛ إذ لا يمكن أن يقال عن أي جزء إنه هو الأصغر، فإذا كانت الأشياء كثيرة، كان من الضروري أن تكون صغيرة وكبيرة في آن معا. بل إن من الضروري أن تكون صغيرة إلى حد ألا يكون لها حجم؛ لأن قابلية الانقسام إلى ما لا نهاية تثبت أن عدد الأجزاء لا متناه. مما يقتضي وحدات بلا حجم، ومن ثم فإن أي مجموع لهذه الوحدات بلا حجم أيضا، ولكن الوحدة ينبغي أن يكون لها حجم ما في الوقت ذاته، ومن ثم فإن الأشياء كبيرة إلى حد لا متناه.
وترجع أهمية هذه الحجة إلى أنها تثبت أن نظرية العدد الفيثاغورية تخفق في ميدان الهندسة؛ ذلك لأن فيثاغورس يرى أننا لو تأملنا خطا، فينبغي أن نكون قادرين على أن نذكر عدد الوحدات الموجودة فيه، ولكن من الواضح أننا إذا سلمنا بفكرة قابلية القسمة إلى ما لا نهاية، فإن نظرية الوحدات تنهار فورا، ومع ذلك فمن المهم أن ندرك أن هذا لا يثبت خطأ فيثاغورس، بل إن ما يثبته هو استحالة القول بنظرية الوحدة وبفكرة قابلية القسمة إلى ما لا نهاية في آن واحد، أو بعبارة أخرى أنهما لا تجتمعان، بل يجب التخلي عن إحداهما. فإذا كانت الرياضة تقتضي قابلية القسمة إلى ما لا نهاية، فلا بد من التخلي عن الوحدة الفيثاغورية. وهناك نقطة أخرى جديرة بالملاحظة، وتتعلق ببرهان الخلف ذاته؛ فالقضية الواحدة ذات المعنى لا يمكن أن تكون لها نتائج مباشرة متناقضة فيما بينها، بل إن المتناقضات لا تتولد إلا حين تضاف إليها قضايا أخرى، كما يحدث في حالة وجود حجتين، عندما تكون القضية المضافة في إحدى الحجتين متناقضة مع القضية المضافة في الأخرى، وهكذا فإن لدينا في الحالة التي نبحثها الآن حجتان؛ أولاهما: هي أن الأشياء كثيرة والوحدات بلا حجم، ومن ثم فليس للأشياء حجم، والثانية: هي أن الأشياء كثيرة والوحدات لها حجم، ومن ثم فللأشياء حجم لا متناه. أما المقدمتان الإضافيتان المتناقضتان فهما أن الوحدات بلا حجم، وأنها ذات حجم ما؛ ففي كلتا الحالتين تكون النتيجة واضحة الامتناع. ويترتب على ذلك أن في مقدمتي كل حجة شيئا ما خطأ. وهذا الشيء الخطأ هو التصور الفيثاغوري للوحدة.
ولكي يدعم زينون موقف بارمنيدس المعارض لفكرة الفراغ، نراه يتقدم بحجة جديدة. فإذا كان المكان موجودا وجب أن يكون متضمنا في شيء ما، وهذا الشيء لا يمكن إلا أن يكون مكانا آخر، وهكذا إلى غير حد. ولما كان زينون يرفض هذا التسلسل الذي لا يتوقف، فإنه يستنتج أنه ليس ثمة مكان، ولكن ما يعنيه هذا الموقف حقيقة هو إنكار الرأي القائل إن المكان وعاء (حاو) فارغ. فمن الواجب في رأي زينون ألا نميز بين الجسم وبين المكان الذي يشغله، ولكن لن يكون من الصعب أن ندرك أن فكرة الوعاء (الحاوي) يمكن بسهولة أن تنقلب ضد نظرية «الكرة
Sphere » كما قال بها بارمنيدس؛ ذلك لأن القول إن العالم كرة متناهية، يعني في هذه الحالة أنه موجود في مكان فارغ. وإذا كان زينون يسعى هنا إلى الحفاظ على نظرية أستاذه، فمن المشكوك فيه أن يكون مجرد الكلام عن الكرة المتناهية أمرا له معنى، إذا لم يكن يوجد خارج هذه الكرة شيء.
Shafi da ba'a sani ba