Hikmat Gharb (Sashi na Farko)
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
Nau'ikan
وفي هذا الكثير مما يخرج عن اللاهوت المسيحي والأخلاق المسيحية، ولكنه لسبب ما لم يكن مصدر إزعاج للمعسكر الديني المحافظ. والواقع أن روح الكتاب بأسره تذكرنا بأفلاطون، وهو يتجنب صوفية الكتاب الأفلاطونيين المحدثين، مثل أفلوطين، ويتحرر من الخرافات السائدة في ذلك الحين. كذلك لا تظهر فيه على الإطلاق روح الخطيئة المحمومة التي سيطرت على المفكرين المسيحيين في ذلك العصر. على أنه ربما كانت أبرز سمات الكتاب هي أنه من تأليف إنسان كان مسجونا ومحكوما عليه بالموت. فمن الخطأ النظر إلى بويتيوس على أنه مفكر يكتب من برج عاجي، وينصرف عن المشاغل العملية لعصره، بل إنه كان على العكس من ذلك يواجه الشئون العملية مباشرة، بوصفه إداريا قديرا رابط الجأش أدى خدمات ثمينة ومخلصة لسيده الحاكم القوطي. وقد أصبح في نظر العصور اللاحقة يعد شهيدا للاضطهاد الأرياني، وهو خطأ في الحكم ربما ساعد على إذاعة شهرته بوصفه كاتبا. ومع ذلك فإنه لم يمنح أبدا لقب «القديس» نظرا لموضوعية فكره البعيد عن التعصب، على حين أن سيريل
Cyril (الذي سنتحدث عنه بعد قليل) قد نال هذا اللقب.
إن أعمال بويتيوس تثير في إطارها التاريخي مشكلة قديمة العهد، هي مدى التزام الإنسان بأن يكون نتاجا لعصره؛ فقد عاش بويتيوس في عالم معاد للبحث المنطقي النزيه، وفي عصر تفشت فيه الخرافات وأعماه التعصب القاتل. ومع ذلك لا يبدو أن شيئا من هذه المؤثرات الخارجية يظهر في أعماله، كما أن مشكلاته ليست بأي حال تلك التي تميز عصره على وجه التخصيص. وبالطبع فمن الصحيح أن الأوساط الأرستقراطية في روما كانت أقل تعرضا للخضوع للأذواق المتقلبة والأمزجة المتغيرة من يوم لآخر؛ ففي هذه الأوساط وحدها ظلت بعض الفضائل القديمة باقية بعد وقت طويل من زوال الإمبراطورية، وربما كان هذا تعليلا جزئيا للروح الرواقية التي تسري في فكر بويتيوس الأخلاقي. غير أن هذه الحقيقة ذاتها - أعني استمرار وجود مجموعة كهذه على الرغم من الغارات البربرية من الخارج والتعصب الأعمى في الداخل - تحتاج بدورها إلى تفسير.
وفي اعتقادي أن التفسير المنشود مزدوج؛ فصحيح أن الناس نتاج تراثهم؛ فهم يتشكلون أولا بالبيئة التي ينشئون فيها، وفيما بعد يجد أسلوب حياتهم دعما من ذلك التراث الذي يدين له بالولاء، إما عن وعي كامل، أو عن طاعة عمياء. غير أن هذا التراث - من جهة أخرى - ليس خاضعا لتقلبات الزمان على هذا النحو، وإنما هو يكتسب حياة خاصة به، ويظل باقيا لفترات طويلة، مختفيا وراء السطح، حتى يظهر مرة أخرى إلى النور عندما يكتسب دعما متجددا. ولقد ظل تراث العصور الكلاسيكية باقيا على نحو ما في الظروف الصعبة للغزوات البربرية، وعلى هذا النحو أمكن ظهور شخص مثل بويتيوس. ومع ذلك فلا بد أنه كان على وعي بالفجوة التي كانت تفصله عن معاصريه. فالدفاع عن تراث ما يحتاج إلى قدر من الشجاعة يتناسب مع قوة هذا التراث، ومن المؤكد أن بويتيوس كان في حاجة إلى كل ما كان يستطيع أن يستجمعه من الشجاعة.
وفي إمكاننا الآن أن نجيب عن سؤال آخر مرتبط بالسابق، فهل من الضروري دراسة تاريخ الفلسفة من أجل فهم مسألة فلسفية؟ وهل نحن في حاجة إلى الإلمام بتاريخ فترة معينة كيما نفهم فلسفتها؟ من الواضح تبعا للرأي الذي عرضناه من قبل أن هناك قدرا من التأثير المتبادل بين التراث الاجتماعي والتراث الفلسفي؛ فالتراث الذي تسوده الخرافة لا ينتج مفكرين متحررين من الخرافة.
والتراث الذي يعزو إلى العفة قيمة أكبر من النشاط البناء لا يفرز تدابير سياسية إيجابية لمواجهة تحديات العصر. ومن جهة أخرى فإن المسألة الفلسفة يمكن أن تفهم بالفعل دون خلفية كاملة من المعرفة التاريخية. وقيمة دراسة تاريخ الفلسفة تكمن في أنه يتيح لنا إدراك أن معظم الأسئلة قد طرحت من قبل، وأن بعض الإجابات الذكية عنها قد قدمت في الماضي.
كان نهب روما إيذانا بعصر من الغزو والمنازعات، أدى إلى سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية، واستقرار القبائل الجرمانية في كافة أرجائها؛ ففي الشمال اجتاحت بريطانيا قبائل الإنجليز
Angles
والسكسون والقوط، وانتشرت قبائل الفرنجة في بلاد الغال، وهبطت قبائل الوندال
Vandals
Shafi da ba'a sani ba