الحاكم بأمره
قيل لي إن عائلات سورية مؤلفة من آباء وبنات وصبيان تقطن في شارع واشنطن، وأغلبها في أعالي البنايات التي يشغل طباقها السفلى محال تجارية ومصانع آلية وإدارات مختلفة، فلم أعجب من سكناها شارعا تجاريا؛ لعلمي أن الاقتصاد الضروري يحدو بالعائلات إلى مثل هذا، ولكني تمنيت لو أني أدخل إلى عمق حياة هذه العائلات فأقرأ في صفحاتها درسا تاريخيا وحقيقة اجتماعية.
ذات يوم قرب المساء، إذ كنت سائرا في الشارع المذكور إذا بصديقي نجيب ملاقيا لي وجها لوجه، فلما التقينا أخذ بيدي جذبا، وقال: «تعال معي يا صاح لنزور عائلة عمي في منزله؛ فإنه يقطن في الطابق الرابع من هذه البناية.» (قال هذا، وقد أشار إلى بناية أمامنا في شارع واشنطن.)
فأجبته: «أها هنا يسكن عمك؟! والله ما خطر ببالي أن عائلة تسكن في هذه البناية القديمة المكتظة بالمحال التجارية!»
فقال: «نعم، هنا يسكن عمي دعيبس، فتعال معي لأقضي هذه الزيارة، وأتخلص منها في حين يكون عمي وحده في البيت، ثم إنه إذا كنت معي لا يستطيع عمي أن يجبرني على البقاء طويلا كما يفعل كلما ذهبت لزيارتهم.»
فأجبته: «إذا كانت المسألة لغاية لك فلا بأس أن أكون حصانا لغايتك.» (قلت: هذا مجاملة له، وأما نفسي فقد حدثتني أن أذهب لا لغايته بل لغايتي؛ أي لأرى بعيني كيف تعيش عائلة عمه في هذا المحيط، ومن وما هو عمه؟)
صعدنا السلالم، وكانت درجاتها الخشبية تنحني تحت وطآت أقدامنا، وتئن أنات عميقة، وتهتز البناية فتسمعنا مفاصلها نغمة نجارية، ولما وصلنا إلى العم دعيبس دق نجيب الباب، فسمعنا الجواب يأمرنا بالدخول، فدخلنا وسلمنا وتعارفنا وجلسنا.
حضرة العم دعيبس يقارب طوله العرض أو عرضه الطول، وقد كان جالسا على الكرسي فلم يبن شيء من ذلك الكرسي المسكين. هيئته بشرية سورية بكل معاني الكلمة إلا أن شاربيه نسيج الطبيعة المتعصبة، التي لا تسمح لشيء عصري أن يعبث بصنعها.
وكان ابن الأخ يكلم عمه، والعم يدخن بالنارجيلة، ويخرج الكلام مقمطا بالدخان، وهو عاض بصفي أسنانه على خشبة النرييج، أما أنا فقد كنت غارقا ببحر أفكاري أسائل نفسي: أين يا ترى شاهدت هذا الرجل عم صديقي نجيب؟ وقد ظللت وقتا أسوق ذاكرتي وأجلدها، لعلها تفطن للمحل الذي رأيت فيه مضيفنا العم، ولكن الذاكرة الملعونة خانتني.
وفيما نحن كذلك إذا بامرأة العم قد أقبلت، وهي امرأة كهلة، مربوعة القامة، حادة النظر، سمراء اللون، قوية العضل، دخلت أولا عابسة، ولكنها ما رمت إلى الأرض بجزدانها الثقيل حتى قلبت تلك العبوسة بابتسامة سورية جميلة، فرحبت أولا بابن سلفها، ثم بالغت بالتأهيل بي، مكثرة من عبارات المجاملة المعتاد عليها. وما أنهت تسليمها علينا حتى رأيت بوادر جسم العم دعيبس قد تحركت قليلا نحوي، وقال: «يا حضرة المستر ... هذه امرأتي وأم الأولاد، وهي من بطلات أميركا، فلا يخفى عنك أن أميركا لا تليق إلا للنساء، وأما الرجال مثلنا، فهم أصفار للشمال.» (قال هذا ضاحكا كأنه يقول فكاهة، ولم يدر أني فهمت أنه قال الصحيح.)
Shafi da ba'a sani ba