فغلبها نوعا قائلا: مع السوق سوقي والسلام!
الأمل والألم
أبو حنا هاجر إلى أميركا مع أم حنا بعد أن رزقهما الله حنا بسنتين؛ أملا أن يكنس كم سلة ذهب من أميركا ويأتي بها إلى وطنه، فيبني قصرا ويشتري حاكورة جاره، ويعيش مع أم حنا وأولاده بمدخوله الكثير دون هم ولا تعتير.
كان أبو حنا قبيل عقده النية على أن يهجر الأوطان يتأمل في السعادة التي يحصل عليها إذا رجع من أميركا موفقا «منيما» مئات الريالات بل ألوف الريالات، فيمد نظره إلى بعيد، قائلا في نفسه إذا كان كل ما يقع تحت بصره يصير ملكه وهو جالس في قصره يدخن أركيلته لا تعب ولا شغل، يأتيه فلاحوه بما يزيده على نفقاته كل سنة، فيا لها من حياة هنيئة!
وأم أبو حنا أميركا بعد أن رهن داره، وجاء بالأم والطفل إلى أميركا بعد عذاب كثير في بيروت ومرسيليا ونيويورك أيضا؛ حيث لاقى الأهوال في الجزيرة بسبب مرض السيدة، ولكن حظه خدمه قليلا؛ لأنه في نيويورك وجد من ضيعته صديقا قديما، كان يتوسط له في إدارة المهاجرة، فبعد أسبوعين من وجود أم حنا في المستشفى خرجت من المطهر إلى عالم الحركة والتجارة.
وظل أبو حنا ضيفا عزيزا على صديقه مدة أسبوع، تعلم في أثنائه شيئا من الشغل، وأمسك سبيل التجارة من أوله؛ إذ ابتاع له مضيفه كشة ملأها بالدبابيس والإبر والمقصات وبعض قطع من مناشف وغيرها، ودربه على كيفية حملها على كتفه وإنزالها، وعلمه بعد الجهد كيف يطرق الأبواب، وكيف ينزع برنيطته ويحيي، وكيف يسأل أن يقبل الناس على أن يشتروا منه ويجابروه. وكان أبو حنا لدى كل هذه الأمور يبلع ريقه، ويكبس على جرحه، شاعرا أنه كان في آماله القديمة في واد والحقيقة في واد؛ فإن الشوارع التي أمل أن يكنس منها سلالا من الذهب، كانت إما نظيفة من كل شيء، وإما مملوءة وحلا وأوساخا. ولكنه لم يجسر على أن يتفوه معترضا على ما شاهده، خلافا لما أمل، أو بالأحرى استحيى أن يقول أمام مضيفه شيئا مما أحس به لدى وصوله من الإخفاق؛ فبقي سره في قلبه واحتمل الكشة وتوابعها لإعالة أم حنا وطفله في أرض الغربة.
ولا حاجة إلى إطالة الشرح من أن السنين العشر الأولى التي قضتها عائلة أبي حنا في أميركا كانت مزيجا من العناء الجم بالنجاح القليل، إلا أنه في خلالها كبرت العائلة، وصار لأبي حنا أربعة غير حنا، وكلهم لم يشعروا بتربيتهم البيتية؛ فإنه نظرا لشغله مع أمهم بالبيع اضطر أن يكذب على ملاجئ الأيتام قائلا في كل واحد يدخل إليه ولدا ليتعلم ويتربى مجانا: إنه يتيم بلا أم وأحيانا كانت تذهب الأم فتقسم أمام عمدة الملجأ أن ابنها يتيم بلا أب، وهكذا رفع الوالدان عنهما مشقة التربية معتنين بتجارتهما، وقد اشتركا على الشغل سوية، وصارا قادرين على أن يقوما بأود نفسيهما مع كم ريال تزيد في كل أسبوع على نفقاتهما، فتأخذها أم حنا وتكنزها في الكمر الذي جاءت به من سوريا، لتخبئها إلى يوم يسمح الله بالرجوع إلى الوطن، ولا تسل عن الاقتصاد الذي مارساه في بحر هذه المدة؛ لأن أفكار الزوجين كانت محصورة بجمع المال للرجوع إلى الوطن في الفرصة السانحة.
إلا أن الأيام لم تتم صفوها لأبي حنا؛ ففي يوم من الأيام عاد أولاده الخمسة دفعة واحدة؛ لأن الملاجئ علمت بأن أبويهم حيان يرزقان، وأنهما من ذوي اليسار، وبعد الجدال الطويل والعناء الكثير اضطر أبو حنا أن يرجع أولاده إلى بيته، ولكنه لم يشعر بحنو والدي نحوهم؛ فإنه ظل بمعرفته اللغة الإنكليزية لا يزيد على ما تعلمه من مضيفه في نيويورك وابن بلده في الأسبوع الأول لوصوله إلى أميركا، أما أولاده فكانوا كأنهم أميركان أبا عن جد، لا يعرفون من العربية كلمة واحدة؛ ولهذا كان يضطر أبو حنا إلى استنجاد شاب سوري؛ ليقف بينه وبين أولاده ترجمانا ينقل منه إليهم إرادته الوالدية، ومنهم إليه صعقاتهم على سوء طالعهم الذي رماهم في بيت قذر كبيت أبيهم، وهم اعتادوا النظافة واللياقة في المدارس الأميركية.
أما أم حنا، فكانت أزلق من زوجها باللغة الإنكليزية؛ ولهذا مال الأولاد إليها دون أبيهم، بل كانوا يخجلون أن يدعوا له أولادا، وأكثر ما كان خجلهم عندما الأولاد في الشوارع يعرفون أنهم سوريون، وكانوا إذا رأوا من أبيهم شيئا لا يرضيهم يشتمونه بكلمة «سوري»، أما هو فظل ممسكا غيظه حتى عيل صبره، وأما الأم فكانت تأخذ جانب الأولاد، وأحيانا تبكي من قهرها وتحنو عليهم وتلاطفهم، وهم رويدا رويدا شعروا بميلهم إلى هذه المرأة التي فيما بعد شعروا بميلهم إليها كأم لهم، أما أبوهم فما كانوا إلا ليزدادوا نفورا عنه وابتعادا، كأنه غير أبيهم.
وساءت الحال في عائلة أبي حنا، فأصبحت حزبين متناكفين الأب من جهة والأم والأولاد من جهة ثانية، فلدى كل وقعة كان الصياح يتعالى لأن أبا حنا لا يعجبه إلا الطعام العربي والأولاد يحنون إلى «الستيك والهام والرستو إلى ما شاكل»، والأم ميلها ميل زوجها، ولكنها كانت تساير الأولاد وتعنف الأب، داعية إياه «فلاحا»، ولم يزل كذلك حتى في أميركا بلاد التمدن والحضارة. أما أبو حنا فكان يتساءل في نفسه ما عساه يا ترى يفعل بنفسه ليخلص من جهنم البيت، فكانت أحيانا تشير عليه أن يترك عاداته، ويتلقن من أولاده العادات الأميركية؛ لأنهم متعلمون متهذبون، فكان يجيبها ويجيب نفسه هازا رأسه: «عندما كبر وشاب حطوه بالكتاب.»
Shafi da ba'a sani ba