فضحكت للأمر وضحك معي الكاتب، وقد تحركت شفتاه كأنهما تريدان أن تنطقا بشيء، ولكنه لم يرد أن يخرج صوته، وهذا لا يخفى علي، فسألته أن يقول ما في ضميره، فتردد أولا، ولكنه ضحك ضحكة شديدة وقال لي: «اقترب مني لأريك.» فاقتربت ومد يده إلى جيبه، فأخرج قطع ظرف قادم من البلاد، وعليه ختم دار الحكومة في بعبدا، فتطلعت إليها بشوق لأرى ماذا فيها، فما كان منه إلا أنه وضع كل قطعة بمكانها الأصلي قرب بعضها، وقال لي إذ ذاك: اقرأ، فقرات هذه العبارة:
حضرة الخواجة نصر البيطار، من قرية عمطير ونزيل الولايات المتحدة.
قلت: أهذا هو نصر بك البيطار، فقال: «هذا هو بعينه، وهذا الظرف هو بخط نفس المتصرف الذي كتب لذلك المسكين منذ سنة، ووضع له لقب بيك مع اسمه.» قلت: ومن مزق هذا الظرف؟ قال: «نصر بك أو الخواجة نصر نفسه عقب وصول هذا الكتاب من دولة المتصرف إليه يسأله فيه شيئا تافها، وقد مزقه ولعن المتصرف، أما أنا فجمعت قطع الظرف لأعرف سبب سخطه على حاكم بلاده، وبعدما عرفت السبب الآن أشاركه بلعنة المتصرف، ليس لإرساله هذا الكتاب بل لذاك الجواب الذي كلف المسكين كل ماله المجموع بعرق جبينه وعناء سنة وربما سنين، وضحك الناس وازدراءهم».
ابن غير عصره
عندما ودع أبو ريا سيده في المدينة قال له إنه لن ينسى فضل البيت الذي ربي فيه منذ كان طفلا إلى أن بلغ سن الكهولة، وما كان ليترك خدمته لولا أن في رأسه موالا يريد أن يغنيه، وذلك الموال مشوار إلى أميركا.
أما سيده فبعد أن أعيى من إقناع خادمه أبي ريا بالبقاء عنده مع زيادة في الأجرة، هز يده متأسفا وقال له: «يا أبا ريا، إنك ربيتني، وكنت لي كأخ ورفيق في زمن شبابي، ثم ربيت أولادي وقد حملتهم ذراعاك أكثر مما حملتهم ذراعي، وقد رأينا منك في السنين العديدة التي خدمت بها بيتنا من زمان المرحوم والدي إلى اليوم ما يجعلنا نعتبرك واحدا من العائلة، ففراقك سوف يؤلمنا، ولكنك تلح بترك الخدمة فعساك أن تتوفق، واعلم أنه حين تعود بيتنا مفتوح لك، ووظيفتك ترجع إليك في حال رجوعك، طمئنا عنك ولا تنس معلمك والأولاد الذين ربيتهم وقد تعلقوا بك كأنك أبوهم.»
وركب أبو ريا البحر، قاصدا أميركا؛ المرتزق العظيم لمن أوصدت أبواب النجاح بوجهه في سوريا. سار وقد أثر فيه وداع سيده وأولاد سيده أكثر من عائلته، وقد تردد وقتا بالعدول عن عزمه إلا أن ذلك الموال كان غلابا، فترك المقادير تجري بأعنتها، وهجر الأهل والوطن، متكلا على الله الذي لا يخيب أمل خائفيه.
في أميركا قطع أبو ريا سنوات يشتغل في مزرعة بعيدة عن نيويورك، ولم يبرح منها إلا حين وطن النفس على العودة إلى الوطن. أما شغله فلم يتصل بي نوعه، ولكني علمت أنه كان عاملا شديد الحرص كثير الاجتهاد.
عرفته بالسمع إذ كان صديقي سليم الرقاش يذكره أمامي في أحاديثه، فكان يخبرني أنه في أميركا وعلى مقربة من نيويورك خادم لهم اسمه أبو ريا، وقد مضى عليه سنون عديدة، ولا بد أن يكون ناجحا. ولم يكن صديقي يعلم مقر ذلك الخادم ولا اجتهد في الحصول على عنوانه، إلا أنه كثيرا ما كان يذكره قائلا إنه كان مربيا له، وقد كان في بيت أبيه نعم الخادم الأمين.
صديقي سليم الرقاش شاب من عائلة طيبة، لا بل من العائلات الموصوفة بالأكابر، وقد درس العلوم في أحسن مدارس سوريا، وتضلع من أربع لغات حية، إلا أنه قصد أميركا؛ لأن أباه عزل من وظيفته وانحطت حالتهم المالية، وكشاب متعلم تربى على العز والبذل رأى في انحطاط مالية أبيه حطة له في البقاء بين أترابه، الذين اعتادوا أن يروه كثير البذل بقطع أيامه في القهاوي على الملاهي لا يعمل عملا لأن أبناء الأكابر لا يعملون؛ ولهذا أراد أيضا أن يغني الموال السوري كما غناه مربيه وخادم أبيه أبو ريا، فقصد أميركا للارتزاق، إلا أن هذا الشاب في أميركا لم ير بابا لارتزاقه؛ فقد جاء إلى العالم الغريب بأخلاقه وعلومه، فكان يشتغل مضطرا، ويعمل إذا أعوزه الحال، ثم يترك العمل حالما يرى أنه يستطيع أن يقتات وينام، فأدى به الحال إلى نزوعه إلى داء المتهذبين القليلي العمل وهو المقامرة، فكان ينام النهار مكبا على إحدى طاولات القهوة، ويعمل الليل ساهرا على قلب الورقة، فإذا خسر فدين عليه وإذا ربح فربحه عون له على يومين أو ثلاثة. وقد قطع سنوات وهو ملازم لهذه الحال، يتدرج من سيئ إلى أسوأ، إلا أنه كان محبوبا من جميع معاشريه للينه وأخلاقه الكريمة وحسن معاشرته، وكان أيضا عونا لزملائه لدى وقوعهم في مشاكل؛ لأنه كان ضليعا من اللغة الإنكليزية، فكان يترجم لهم في المحاكم، ويرافقهم في مشترى الأمتعة والحاجات إلى ما شاكل.
Shafi da ba'a sani ba