وبعد أيام ظل القوم على العداء بين بعضهم البعض، وإنما دون اجتماعات ولا معالجات، ولكنهم كانوا واحدا واحدا يرجعون الجرائد إلى أصحابها، معتذرين لأنفسهم عذرا على عدم استطاعتهم الاشتراك في الوقت الحاضر.
واجتمع الصحافيان اجتماعا في أحد الصوالين فسأل الواحد الآخر: كيف الشغل؟ - أيام المناظرة كان ولا أحسن منه! - نعم، هكذا كان حالي، وأما اليوم فالأعداد المرتجعة تزداد يوما على آخر. - يظهر أن القوم لا تلذهم الجرائد إلا في حال المناظرة. - إذا كانت المناظرة من المروجات، فلماذا لا نتناظر. - أنا أرتئي ذلك، فلنبدأ غدا، وأنا أكون البادئ بمقالة من «كعب الدست».
جمعتني إحدى السهرات برهط من القوم وكان بينهم رجل يطالع إحدى الجرائد العربية برغبة فائقة غير مكترث بأحاديث القوم، فدنوت منه ودفعت إليه جريدة كانت بجيبي حفظتها لمقالة فيها لم أقرأ أبلغ منها بموضوعها بعنوان «حياتنا السورية»، وقلت له: يظهر أنك تحب المطالعة، فخذ هذا العدد واقرأ المقالة الفلانية.
فتناول مني ذلك العدد، وبعدما أجهد نفسه بمطالعة العنوان مع السطر الأول طواها وأعادها إلي، قائلا: «ما فيها شي.» ثم استأنف القراءة في الجريدة التي كان يطالعها، فتطلعت إلى الموضوع الذي كسب شوقه الزائد في قلب السهرة الحافلة، فرأيته يقرأ خطوطا تحت عنوان «ذلك الصحافي السافل».
فرجعت إلى مكاني، مرددا عبارته: «ما فيها شي.» ولم أعد أحشر نفسي بين القوم فيما بعد.
المال يتكلم
في أول سنتين لوجود موسى البدل في أميركا سعد بثروة ليست بالقليلة؛ إذ كانت المهاجرة السورية لم تزل تكتب الصفحة الأولى من تاريخها، وقد كان يقدره الناس بصاحب خمسين ألف ريال، وبعضهم يضعه فوق هذا المقام من الثروة. والحقيقة أنه هو نفسه لم يكن عارفا بمقدار ما معه بالتمام؛ لأن الغنى جاءه لأم ساعته، فلم يعطه فرصة للعد والحسبان، ولم يكن حضرته يأمل بمثل هذه الثروة، إلا أنها أتته عفوا بفضل الأحوال والصدف، وما أكثرها في هذه البلاد.
بعدما صار في هذه الدرجة من الغنى افتتح محلا رسميا، واستخدم ماسكا لدفاتره ومعينا له في العمل، وقد عين عملاء في بعض البلاد الأوروبية والآسيوية، وكثرت بضائعه وتراكمت، وافتتح حسابا في البنك، وطفق يبيع ويشتري، وإذا كان التجار اصطلحوا على إقفال محالهم عند الساعة السادسة كان حضرته يتناول العشاء في محله، ثم يستأنف العمل إلى ما بعد الساعة العاشرة ليلا، وظل يعمل باجتهاد كلي النهار كله وبعض الليل حتى جاء رأس السنة الجديدة، فعمل حسابه بعد تقويم المحل، فوجد أنه لم يربح ألوفا من الريالات بل يضع مئات تنقص عن نفقاته الخاصة.
لم يفتكر أن السنة الأولى هي سنة تأسيس لا يلقى عليها أمل كبير بأرباح كثيرة، ولما كان قد اعتاد أن يربح خمسين ألف ريال في سنتين فقد مقت المحل الرسمي، وأسف للحالة السالفة؛ إذ كان يتناول صندوق البضاعة الأسطمبولية ويبيعه قبل أن يفتحه بربح ألف ريال نقدا دون تقييد ولا نفقات محل وعمال؛ ولهذا عمد إلى التغيير، فصرف الكاتب والمعين بسلام، وظل هو في المحل ماسكا الدفاتر وكل شيء، ولو أنه استطاع تصريف البضاعة والرجوع إلى حاله السالفة لما تردد، ولكن كيف يمكنه ذلك وقد علق ببنك وزبائن له عليهم ديون وحسابات جرارة، وعملاء لهم عليه حقوق وعندهم له طلبات؟
اضطر المسكين أن يظل تاجرا رسميا سنة أخرى وتبعتها ثالثة ورابعة وخامسة، وفي كل سنة يأكل أصابعه ندما لانخراطه بالتجارة مع أن ميدان الربح واسع بغيرها أو عن غير طريق المحال، وكان يشتهي الخلاص من تلك الوقعة المشئومة، ولا يجد لنفسه منفذا ليخلص برأس ماله القديم. وكلما عن له التخلص صغر دائرة أعماله، فكان كالبزاق «بيتي على ظهري علا»، كل سنة ينقل إلى محل أصغر فأصغر اقتصادا وظنا منه أنه بذلك يتغلب على النفقات فتكثر أرباحه، وما درى أنه بذلك يصد الربح عنه، ويقضي عليه بالابتعاد.
Shafi da ba'a sani ba