الحكايات في مخالفات المعتزلة من العدلية والفرق بينهم وبين الشيعة الإمامية من أمالي الإمام الشيخ المفيد محمد بن محمد النعمان ابن المعلم أبي عبد الله، العكبري، البغدادي (336 - 413 ه) عرض ورواية السيد الشريف المرتضى علي بن الحسين بن موسى أبي القاسم الموسوي البغدادي (355 - 436 ه) تحقيق السيد محمد رضا الحسيني الجلالي
Shafi 3
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا الرسول الأمين، وعلى الأئمة الطاهرين من آله الطيبين.
Shafi 5
تقديم:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى الأئمة من آله حجج الله.
وبعد:
في عام (1408) طبع هذا الكتاب بتحقيقي في العدد السادس عشر من نشرة " تراثنا " الفصلية، التي تصدرها مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، في مدينة قم المقدسة.
وكنت قد اعتمدت في تحقيقه على ثلاث نسخ، وقدمت له مقدمة مسهبة احتوت على: دعوة لإحياء الذكرى الألفية لوفاة مؤلفه الشيخ المفيد رحمه الله (413 - 1413).
واحتوت على حديث عن أقسام التعاليم الإسلامية، ونشوء الفرق الكلامية، والخلط بين المذاهب، ونبذة عن حياة الشيخ المفيد قدس الله سره، وعن هذا الكتاب.
ولقد قيض الله من حقق الرغبة ولبى الدعوة لإحياء الذكرى الألفية، فرغب إلي في إعادة طبع هذا الكتاب، ضمن ما عزم على نشره من تراث الشيخ المفيد (رضوان الله عليه).
Shafi 7
ولقد تم تصميم القائمين على هذا الأمر أن يعيد نشره ثانية، بصورة مستقلة.
فقمت بقراءة ثانية للكتاب، مع اعتماد نسختين أخريين منه في العمل، وتقديم كلمة قصيرة عن موضوع الكتاب، ونسبته، ونسخه، ومنهج العمل فيه.
آملا أن يحوز رضا المراجعين الفضلاء.
ولله الحمد في الأولى والآخرة، إنه ولي التوفيق، وهو نعم المولى، ونعم النصير.
وكتب السيد محمد رضا الحسيني في 25 رجب المرجب 1412
Shafi 8
المقدمة 1 - على الأعتاب يعتبر القرن الرابع الهجري - عند بعض الدارسين حول التاريخ الاسلامي - عهدا مميزا بأهمية خاصة من بين القرون التي سبقته ولحقته.
وربما بكون بين أسباب ذلك أنه القرن الذي سبقته ثلاثمائة عام، كانت كافية لأن ترسو فيها الأمة على شاطئ الاستقرار والأمان، في السياسة والقانون والعقيدة، بعد أن مرت بالتجارب العديدة واللازمة والمتفاوتة في أشكال الحكم وأنظمته، وفي المدارس الفقهية ومناهجها، وفي الآراء والعقائد ونظرياتها، كما كان المفروض أن يتم الازدهار على كافة الأصعدة، بعد أن جرب كل أصحاب القدرات والمهارات المهنية والصناعية والعملية حظوظهم، وحتى بعد أن امتلأ أصحاب الشهوات والأهواء من أمنياتهم ورغباتهم التي حصلوا عليها، بعد أن عانت الأمة وعاشت كل الآلام والآمال، ووقفت على كل التجارب، وحان لها أن تقترع على الشكل النهائي والأفضل، والذي يتمثل فيه " الحق الاسلامي " الذي تنتمي إليه الأمة بكاملها، على اختلاف أهوائها ومذاهبها، والعنوان الكبير الذي لا يزال له الهيبة والرسم، وإلى وده وحبه تتسابق كل الفئات، وكل يدعي وصلا به، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: نجد في هذا القرن خاصة، الزمان الذي تكاملت فيه مصادر المعرفة الإسلامية، وجمعت وضبطت، بحيث لم
Shafi 9
يشذ عن حيطة الدارسين ما يعذرون بجهله.
وملاحظة أخرى تعتبر هامة: أن الثقافات غير الإسلامية، أصبحت تظهر نشاطا خاصا بعد أن تمادى بالأمة البعد عن التعاليم الإسلامية، فتردت في مهاوي الفراغ العقائدي، والفساد الخلقي، والضعف العسكري، فوجدت تلك الثقافات منافذ للتسلل إلى المجتمع الاسلامي، مستغلين ذلك، إلى جانب السماح الاسلامي المتبني لمبدأ " لا إكراه في الدين ".
ولقد حاولت المذاهب والفرق المختلفة من اتخاذ المواقع المحددة، للحفاظ على نفسها وعلى المنتمين إليها، فرسمت لأنفسها الحدود العقيدية، حسب مناهجها الفكرية، كما حصل للمذهب السني على يد منظره العقيدي أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري (ت 330) الذي حدد معالم " العقيدة الأشعرية " في مؤلفاته، فظلت ملتزما بها، عند أهل السنة حتى اليوم!
وبالنسبة إلى مذهب الشيعة، فإن هذا القرن كذلك كان مميزا ومهما:
في بداياته واجهت الطائفة مسألة غيبة الإمام عليه السلام بشكل جديد، وهو أمر - وإن سبقت له أمثلة - إلا أنها في هذه المزة كانت أدق، وأوسع مدى.
وفي هذا الظرف بالخصوص كانت النصوص الشرعية المباشرة قد تكاملت، ولم يتوقع بعد ذلك صدور نص جديد، بفرض الغيبة الكبرى للإمام عليه السلام الذي يعتبر مصدرا ممتدا للتشريع.
Shafi 10
وعندها أقدم واحد من كبار علماء الشيعة في ذلك العصر، بتجميع كافة ما توفر من النصوص المعتمدة، للمعرفة الإسلامية، وهو الإمام أبو جعفر الكليني محمد بن يعقوب الرازي (ت 329) الذي ألف كتاب (الكافي) فاعتبر مجددا للاسلام في مطلع القرن الرابع الهجري، وكذلك عمد الأعلام من معاصريه بتأليف النصوص وتجميعها، لتكون نواة لاستنباط الأحكام، والتفريع على أساسها.
ومن هذا ارتأينا في بعض بحوثنا أن يسمى هذا العصر بعصر " تحديد النصوص ".
ومن ناحية سياسية: فإن هذا القرن شهد انفراجا أمام الطائفة الشيعية ليظهروا قابلياتهم على الساحة، فتمكن العديد من أبنائها بجهودهم من الفوز بمواقع هامة، والاحتواء على حقائب وزارية - باصطلاح عصرنا - أو تولي إمارات البلدان الكبرى في الدولة العباسية، كما تغلبت بعض الطوائف الشيعية على مقاطعات من الإمبراطورية الإسلامية بالنضال والحرب، كما كان بالنسبة إلى الزيدية في اليمن، والفاطميين في المغرب.
وكان لهذا، ولوجود الأمراء الشيعة ضمن الدولة المتمثلة في نظام الخلافة العباسية في بغداد - كالحمدانيين في الموصل وحلب الشهباء والبويهيين في الري وفارس وأصبهان - أثره الفعال في انعطاف السياسة الحكومية السنية - ظاهرا - تجاه الطائفة الشيعية والمذهب الشيعي، واتخاذ مواقف أكثر مرونة، أو ديمقراطية - إن صح التعبير -.
وتمكن الشيعة في ظل هذه الظروف من التنفس والتواجد في الساحة بحرية، بالرغم من المشاغبات الطائفية التي كان يثيرها الجهلة
Shafi 11
من العوام، أو بتدخل بعض المتعصبين من علماء السوء أو المغفلين، وحتى بفعل الحكام المنتهزين للفرص.
فكان على علماء المذهب أن يعلنوا عن مواقفهم الصريحة والمحددة تجاه المسائل المعروضة على الساحة، ويدافعوا بكل ما أوتوا من قوة، كي يتموا الحجة على من لا يعرف، ويدحروا اتهامات المغرضين، فكان أن انبرى أعلام الطائفة ببياناتهم وتأليفاتهم، بعرض تفاصيل العقائد الحقة، وبصورتها المتكاملة والمتطورة، في هذا القرن.
والذي تزعم هذه الحركة الخطيرة ومع أتم الصلاحية وكل العزم وأشد القوة، هو الشيخ الإمام أبو عبد الله المفيد محمد بن محمد بن النعمان، البغدادي، العكبري (ت 413) لقد تمكن هذا الشيخ العظيم من تحديد ما يجب اعتقاده للشيعة الإمامية، مميزا لعقائدهم الحقة من بين مقالات الفرق الشيعية الأخرى.
أما الفرق غير الشيعية، فإن له معها مواقف حاسمة في مجالسه، ومناظراته، وبحوثه، وكتبه، حول المواضيع المطروحة على الساحة يومئذ، وهي معروفة من خلال قائمة مؤلفاته وعناوين مناظراته.
والحق أن الشيخ المفيد، قد استفاد من الأوضاع التي عاصرها، والتي كانت ملائمة إلى حد ما، في المجالات السياسية والاجتماعية والعلمية، فائدة كبيرة وفخمة، وبجودة ودقة فائقة حتى اعتبر - بحق - مرسي قواعد المذهب، ومشيد صرح الدين ورافع أعلام الحق، ومناصر المؤمنين، فله على كل الطائفة " منة " مدى القرون.
Shafi 12
إنه تمكن - بقدرته الفائقة في العلم والبيان، وموقعه الرفيع بين أعلام الأمة - من تشييد أصول المذهب، والاستدلال على عقائده الحقة بأقوى ما لدى المسلمين من أدلة معتمدة على مصادر المعرفة من قرآن، وحديث، وإجماع، ومناهج عقلية، ومسالك عرفية مسلمة، وعلى أسس علمية رصينة، بعد أن كانت قد غمرتها ترسبات سياسات الخلافة الظالمة، وتعصبات الطائفية الجاهلية، وتعديات الأعداء الحاقدين، فصمت الآذان عن سماعها، وعمهت قلوب وعقول عن تعقلها والانتعاش بحقها.
فكان الشيخ المفيد البطل الذي اقتحم أهوال الميدان، فأعلن عن حق أئمة أهل البيت عليهم السلام في الدين ومعارفه، وفي الدنيا وولايتها، وفي الآخرة وشفاعتها.
ولقد قام الشيخ بهذا كله، إلى جانب ما كان يتمتع به من مرجعية عامة في الأحكام، وموسوعية تامة في العلوم، وبتدبير وحنكة، وإلى جانب ما كان يبذله من جهود جبارة في تربية جيل من الأعلام، فكان العملاقان: السيد المرتضى، والشيخ الطوسي من تلامذة مدرسته العظيمة.
فلكل ذلك استحق بجدارة وسام " التجديد " في مطلع القرن الخامس، وأكرم به (1).
Shafi 13
2 - أقسام التعاليم الإسلامية تنقسم تعاليم الاسلام إلى قسمين رئيسيين:
الأول: الأحكام الشرعية المرتبطة بتحديد أفعال المكلفين من عبادات ومعاملات، والحكم عليها بأحد الأحكام الخمسة.
الثاني: العقائد، والالتزامات الفكرية للانسان المسلم.
وقد اختلفت الفرق والمذاهب الإسلامية في تحديد مصادر هذه التعاليم.
أما القسم الأول:
فقد قال قوم بأن مصدره هو خصوص الطرق المقررة من قبل، الشارع نفسه، ولا يمكن أن يتدخل العقل - بأي شكل - في تحديد التكليف الشرعي، وهؤلاء هم " المحدثون ".
وقال قوم بأن مصدره هو الطرق المقررة: إن وجدت، وإلا فإن الدليل العقلي يكشف عن وجود التزام شرعي على طبقه، وهم " المجتهدون ".
ومحل تفصيل هذين القولين، بما لهما من الخصوصيات، والمضاعفات، واللوازم، هو علم أصول الفقه.
Shafi 14
وأما القسم الثاني:
فقد تكفل ببيان مسائله علم (الكلام) لكن المسلمين اختلفوا اختلافا كبيرا في تحديد مصدر أساسي لهذا العلم، بعد اتفاقهم على أن مسائله جز من أهم تعاليم الاسلام.
وبذلك يمكن القول بأن من المجمع عليه بين الأمة وجود بذور علم الكلام مع بزوغ الاسلام ومنذ بداية ظهوره، فإن من مهمات المسائل الكلامية، هي مسألتا " التوحيد " و " النبوة " وهما من المعتقدات التي أكد عليها الاسلام منذ البداية.
فيتضح خطأ من أخر عهد نشوء علم الكلام إلى عهد متأخر (2).
وإذا قارنا بين العلوم الإسلامية، وجدنا أن علم الكلام، أكثرها أهمية من حيث ما يحتويه من بحوث عميقة ضرورية، كما هو أسبق رتبة من غيره، وأشرف موضوعا، لأنه يبحث عن أساس ما على المسلم من التزامات فكرية وعقائد، من المبدأ، والمعاد، وما بينهما، وعلى ذلك تبتني كل تصرفاته وشؤون حياته الدنيوية والأخروية (3).
وبالرغم من اتحاد المسلمين على عهد الرسالة في الالتزام بما يتعلق بالقسمين من تعاليم الاسلام معا، فإن عنصرا جديدا طرأ بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فأدى إلى حدوث خلاف بينهم، وهو " الخلافة " وسبب البحث حولها انقسام الأمة إلى فرقتين:
Shafi 15
1 - الفرقة الأولى: تقول بوجوب الإمامة على الله تعالى، كما هو الاعتقاد في النبوة، وأن الإمام يتعين بتعيين الله تعالى، وهم " الشيعة ".
وعلى رأيهم يكون بحث الإمامة، من صميم المباحث الكلامية.
2 - الفرقة الثانية: تقول بأن الإمامة واجب تكليفي على الأمة، فيجب على المسلمين كافة تعيين واحد منهم لأن يلي أمر الأمة، وهؤلاء هم " العامة ".
وعلى رأيهم يكون بحث الإمامة، من مباحث الأحكام الشرعية، وهذا النزاع مع أنه لم يمس - ظاهرا - العقائد المشتركة التي كانت على عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وكان الإنسان بها مسلما إلا أنه أدى إلى تصديع الحق الذي كانوا عليه في ذلك العهد، وسبب بعد إحدى الفرقتين عن الأخرى، فوجود مدرستين منفصلتين، لكل منهما طريقتها الخاصة في التدليل والتحليل، إلى حد دخل بحث الإمامة في صلب مباحث علم الكلام، بعد حين (4).
ولئن كانت العقائد الإسلامية في بداية عصر الاسلام محدودة كما ، وواضحة سهلة كيفا، لتحددها بالتوحيد والتنزيه، وإثبات الرسالة بالمعاجز المشهودة عينا، والوعد والوعيد، فإنها كانت تعتمد على القرآن المجيد كنص ثابت، وعلى السنة النبوية كنص حي، فقد كانت بعيدة عن البحوث المعقدة المطروحة على طاولة علم الكلام فيما بعده من الفترات، كما أن تلك البحوث لم تمس تلك الأصول الواضحة،
Shafi 16
ولم تؤثر عليها بشئ (5).
وطرحت في العقود الأولى لتاريخ الاسلام، بحوث كلامية مستجدة، كانت مسرحا للنزاعات الفكرية بين المسلمين، أدت بالتالي إلى تأسيس مدارس كلامية متعددة، ومن أهم تلك البحوث:
1 - الجبر والاختيار، وما يرتبط بمبحث العدل.
2 - القضاء والقدر.
3 - صفات الله تعالى، وما يرتبط بمبحث التوحيد.
4 - الإيمان، والفسق، وارتكاب المعاصي، وما يرتبط بمبحث المعاد.
وغير ذلك مما لم يطرح من ذي قبل، أو كان مطروحا بشكل بدائي جدا، من دون تفصيل.
ومع ذلك، فإن هذه البحوث - أيضا - لم تثر اختلافا يؤدي إلى حدوث فرق مذهبية منفصلة، إلا بعد فترة، وإن لم تتجاوز القرن الأول الهجري (6) على الأكثر.
Shafi 17
3 - نشوء الفرق الكلامية واختلف المسلمون في تحديد المصادر الأساسية للتعاليم الإسلامية في مجال العقائد، فكانوا فرقا ثلاثا:
1 - فرقة تقول بأن المصدر الوحيد هو النص الشرعي، من الكتاب والسنة، وأن المسائل الاعتقادية توقيفية، فلا يتجاوزون ما ورد في النصوص موضوعا، وتعبيرا، ولا يتصدون لشرح ما ورد فيها أيضا، ولا لتوضيحه أو تأويله، ويلتزمون بعد القلب على تلك الألفاظ بما لها من المعاني التي لم يفهموها ولم يدركوها (7).
2 - وفرقة تقول بأن المصدر هو النص، لكن ما ورد فيه من ألفاظ وتعابير لا بد من حملها على ظواهرها المنقولة، لا المعقولة، والالتزام بها على أساس التسليم بما ورد النص بتفسيره، وقد التزم بهذا من ليس له حظ من العلوم العقلية، وهم " أصحاب الحديث " (8).
3 - وفرقة تقول بأن طريق المعرفة بالعقائد الحقة والمسائل الكلامية هو العقل، إذ به يعرف الحق، ويميز عن الباطل، ولا منافاة بين الشرع والعقل في ذلك، فالنص إنما يرشد إلا الحق الذي يدل
Shafi 18
عليه العقل، ولو ورد ما ظاهره مناف لما قرره العقل، فلا بد من تأويل ذلك الظاهر إلى ما يوافق العقل ويدركه (9).
فالفرقة الأولى: تسمى من العامة ب " السلفية " وهم " المقلدة " من الشيعة.
والفرقة الثانية: تسمى من العامة ب " الأشاعرة " وهم " الأخبارية " من الشيعة.
والفرقة الثالثة: تسمى من العامة ب " المعتزلة " وهم " الفقهاء " المجتهدون من الشيعة.
ويلاحظ في كل فرقة، شبه كبير بين شيعتها، وبين العامة منها.
فالسلفية من العامة، يشبهون في المحاولات الفكرية والالتزامات العقائدية المقلدة من الشيعة.
والأشاعرة من العامة - وهم أهل الحديث عندهم - يقربون في الطريقة والأسلوب من الأخبارية الذين هم أهل الحديث من الشيعة.
والمعتزلة من العامة، تشبه طريقتهم في التفكير والاستدلال طريقة الفقهاء المجتهدين من الشيعة.
وقد يتصور البعض أن الفرق بين شيعة كل فرقة وبين العامة منها ، هو مجرد الاختلاف في الإمامة، وتعيين أشخاص الأئمة، ذلك الخلاف الأول الذي أشرنا إليه.
Shafi 19
لكن الواقع أن الخلاف بين الشيعة والعامة من كل فرقة واسع، مضافا على ذلك الخلاف في الإمامة والإمام.
فالفرقة الأولى:
يعتمد العامة منهم - وهم " السلفية " (10) - على ما جاء في الكتاب والسنة من العقائد، وإذا تعذر عليهم فهم شئ من النصوص توقفوا فيه، كما أنهم يلتزمون بالنصوص حرفيا، فيكررون ألفاظها، ويفوضون أمر واقعها إلى الشرع.
وكانوا يقفون من " علم الكلام " المصطلح، موقفا سلبيا، فكان مالك بن أنس يقول: " الكلام في الدين أكرهه، ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل... أما الكلام في الدين وفي الله تعالى فالكف أحب إلى " (11).
وكان يقول زعيمهم أحمد بن حنبل: " لست صاحب كلام، وإنما مذهبي الحديث " (12).
لكن الشيعة من هذه الفرقة، وهم " المقلدة " (13) كانوا يأخذون العقائد من الكتاب وسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مع
Shafi 20
ما ورد عن أئمة أهل البيت عليهم السلام من الاستدلالات، وفيها الكثير مما لم ينله السلفية من العامة لبعدهم عن الأئمة عليهم السلام.
لكن المقلدة والسلفية يشتركون في أنهم لا يحاولون الاستدلال على شئ خارج عن النص، ولا يجتهدون في المزيد من البحث و الفكر فيما يرتبط بالعقائد.
والفرقة الثانية:
فأهل الحديث من العامة، هم " الأشاعرة " يلتزمون بالعقائد التي تدل عليها النصوص، ويفسرونها حسب ما تدل عليها العبارات من الظواهر المفهومة لهم، وبما يدركونه من المحسوسات، حتى ما ورد فيها من أسماء الأعضاء المضافة إلى اسم الله، كاليد، والرجل، والعين، والوجه، ولم يلجؤوا إلى تأويل ذلك عن ظاهره (14) ولذلك يسمون ب " المشبهة ".
ويختلف الأشاعرة عن السلفية في تجويز هؤلاء البحث في الكلام، وقد كان أبو الحسن الأشعري - وهو زعيم الأشاعرة ومؤسس مذهبهم - من أوائل الرادين على دعوة ابن حنبل رئيس السلفية في النهي عن الكلام، إذ تصدى له في كتاب بعنوان " رسالة في استحسان الخوض في علم الكلام " قال فيه: " إن طائفة من الناس جعلوا الجهل رأس مالهم، وثقل عليهم النظر والبحث عن الدين، ومالوا إلى التخفيف والتقليد، وطعنوا على من فتش عن أصول الدين، ونسبوه إلى الضلال
Shafi 21
وزعموا أن الكلام... بدعة وضلالة " ثم تصدى لردهم بقوة (15) أما أهل الحديث من الشيعة، و هم " الأخبارية " فيعتقدون بلزوم متابعة ما ورد في النصوص والاعتماد عليها، لكنهم يعتمدون على ما ورد في حديث أئمة أهل البيت عليهم السلام من تأويل و تفسير لتلك النصوص، كما يتبعون ما ورد عنهم من الاستدلالات العقلية، ولذلك فإنهم يؤولون النصوص التي ظاهرها إثبات اليد والوجه والعين لله تعالى ، و ينفون التشبيه، تبعا لأهل البيت عليهم السلام (16).
قال الشيخ الكركي (ت 1076) - وهو من الأخبارية المتأخرين - عند البحث عن التقليد في أصول الدين: " والحق أنه لا مخلص من الحيرة إلا التمسك بكلام أئمة الهدى عليهم السلام، إما من باب التسليم، لمن قلبه مطمئن بالإيمان، أو بجعل كلامهم أصلا تبنى عليه الأفكار الموصلة إلى الحق، ومن تأمل نهج البلاغة، والصحيفة الكاملة، وأصول الكافي ، وتوحيد الصدوق، بعين البصيرة، ظهر له من أسرار التوحيد والمعارف الإلهية ما لا يحتاج معه إلى دليل، وأشرق قلبه من نور الهداية ما يستغني به عن تكلف القال والقيل " (17).
ويشترك الأشاعرة من العامة والأخبارية من الشيعة، في رفض المحاولات العقلية، والاحتجاجات الخارجة عن النص.
Shafi 22
والفرقة الثالثة:
فالمعتمدون على العقل من العامة، وهم " المعتزلة " يفترقون عن " الفقهاء " من الشيعة، في جهات عديدة كما سيأتي، وإن اشتركوا في اعتمادهم على العقل كمصدر للعقائد.
Shafi 23
4 - الخلط بين المذاهب والتشابه الكبير بين الشيعة من كل فرقة والعامة منها، أصبح منشأ لاتهام كل منهما بالأخذ من الآخر، أو للخلط بين كل من المذهبين، أو نسبة آراء كل منهما إلى الآخر، باعتبار أن منهجهما الكلامي واحد، ويلتزمان في الفكر بمصدر واحد (18).
وعلى أساس من هذا الخلط، قد يسوي البعض بين أهل الحديث من العامة، وبين أهل الحديث من الشيعة، باعتبار اعتمادهم على الحديث مصدرا للمعتقدات الكلامية، غفلة عن الفوارق المهمة الأخرى التي ذكرناها.
فإن أهل الحديث من العامة، يرفضون التأويل في النصوص، بينما أهل الحديث من الشيعة يلتزمون بالتأويل بالمقدار الموجود في أحاديث أهل البيت عليهم السلام.
والتزامهم بالتأويل - ولو بهذا المقدار منه - سبب اتهامهم بأنهم من المعتزلة، لأن هؤلاء أيضا يلتزمون بتأويل الظواهر، غفلة عن أن المعتزلة يختلفون عن أهل الحديث من الشيعة في جهات عديدة - بعد الإمامة - أهمها اختلاف المنهج الفكري، حيث يعتمد أهل الحديث من
Shafi 24