Labari Ba Tare da Farko ba ko Karshe
حكاية بلا بداية ولا نهاية
Nau'ikan
حكاية بلا بداية ولا نهاية
حارة العشاق
روبابيكيا
الرجل الذي فقد ذاكرته مرتين
عنبر لولو
حكاية بلا بداية ولا نهاية
حارة العشاق
روبابيكيا
الرجل الذي فقد ذاكرته مرتين
عنبر لولو
Shafi da ba'a sani ba
حكاية بلا بداية ولا نهاية
حكاية بلا بداية ولا نهاية
تأليف
نجيب محفوظ
حكاية بلا بداية ولا نهاية
1
هتف المنشد في نغمة بدائية: «يا سيدي الأكرم على بابك.»
فردد المريدون: «الله .. الله .. الله.»
تابعت عيناه المشهد من خصاص نافذة ببهو الاستقبال. تابعتا موكب أهل الطريقة وهم ينشدون ويصفقون على أنغام الناي ودق الدفوف وتحت البيارق ينشدون. تزاحموا حول الضريح وأمام البيت الكبير حتى امتلأت بهم الحارة. تسللت إليه في موقفه وراء النافذة نسائم دافئة من الحديقة مترعة بأخلاط من روائح الفل والياسمين والحناء والقرنفل. لبث بمكانه في بذلته السوداء الأنيقة مغطى الرأس بعمامة مقلوزة، ينظر ويصغي باهتمام. «يا سيدي الأكرم على بابك.
الله .. الله .. الله.»
Shafi da ba'a sani ba
وارتفع صوت مكتسح النبرة يطالب الجميع بالسكوت، فساد الصمت. راح يخطب قائلا: «هنيئا لأهل مصر. هنيئا لمصر. اختارك الأكرم مأوى ومستقرا لشخصه ولذريته. هنيئا لك يوم قصدك قادما من المشارق. على قدميه جاء. يستأنس وحوش البراري. يخترق الجبال، يسير فوق الماء، يفجر العيون في الصخر. وهل على القاهرة السعيدة كالبدر. وتجول في أطراف متباعدة حتى استقر به المقام في هذه البقعة الطاهرة حيث يقوم مسجده وضريحه. هنيئا يا مصر، وهنيئا يا حارتنا، حارة الأكرم وموطن ذريته ومريديه. منذ قرون خلت انبثق في هذا المكان نور ما زال يجذب إليه فراشات من طالبي الهداية والغفران، وترك لكم المسجد والبيت الكبير. البيت الكبير مركز الروح والنور والهدى، تدور حوله كواكب الأكرمية ما بين سوريا والعراق وتركيا ولبنان وفلسطين والجزيرة والهند وفارس وتونس والجزائر ومراكش وطرابلس. بيت هو القلب الخفاق لعالم روحي شامل. يا سيدي الأكرم تحية وسلاما. يا من جبت الأقطار كلها واخترت لمقامك هذا القطر، هذه العاصمة، هذه الحارة، هذا البيت. يا صانع الكرامات تحية وسلاما. ولآخر خلفائك وذريتك مولانا محمود الأكرم تحية وسلاما.»
تعالت الهتافات من الأركان، ثم أنشد المنشد وردد المريدون: «يا سيدي الأكرم على بابك.
الله .. الله .. الله.»
تحول عن النافذة. بوجه أسمر مستطيل ولحية سوداء قصيرة مدببة. تطلع إلى شيخ في الستين يقف وسط البهو الكبير تحت نجفة برنزية على هيئة مئذنة. أنعم فيه النظر فتلقى الشيخ نظرته بخشوع وقال: تحية وسلاما يا مولانا محمود الأكرم.
فتمتم الرجل باسما: طاب يومك يا شيخ عمار.
مضى - والآخر يتبعه - إلى كنبة تركية مفروشة بالسجاد الشيرازي على مقربة من باب السلاملك. جلس ودعا الشيخ إلى الجلوس. تتابعت نسائم الصيف العطرة متهادية في تضاعيف أصيل غابت شمسه وراء أشجار التوت المعششة بالعصافير. قال الشيخ محمود: من يرى موكبنا لا يتطرق إليه شك في استقرارنا.
فقال الشيخ عمار بحماس: ما زالت الدنيا بخير.
هز الرجل رأسه في أسى متسائلا: ماذا جرى لحارتنا؟ - لا شيء، سحابة صيف، عبث أطفال. - إنك لا تؤمن بما تقول يا شيخ عمار، هل سبق أن نال لسان من الطريقة؟ - إنه جيل جديد عجيب يمتطي مركبة الشيطان.
قطب محمود الأكرم قائلا: يسخرون من الطريقة، ومن المريدين، ومني شخصيا، ويرسلون النكات في مقاهي الحارة بكل وقاحة. - وباء هذا الزمن، ماذا جرى لهذا الجيل؟ كيف هانت عليه مقدساته، ولكنه عبث أطفال ليس إلا. - ألم يسمعهم المريدون؟ - بلى يا مولاي. - ماذا فعلوا؟ - نصحوهم بالتي هي أحسن، وركبهم الغضب مرات، ولكن أحدا منهم لم ينس أن الحارة أسرة واحدة.
قال محمود الأكرم بحدة: لولا الأكرمية ما كان للحارة شأن! - هو الحق يا مولاي، وقد هيجني الغضب مرة فكدت ...
Shafi da ba'a sani ba
ولكنه قاطعه قائلا: لا يليق العنف بأهل الطريق! - ولكن للصبر حدود. - أسأل الله ألا تدفعنا الأحداث إلى تجاوز القصد.
رفع بصره إلى الساعة الكبيرة في الجدار الأوسط ثم تساءل: متى يجيئون؟ - لعلهم في الطريق إلينا. - ألا يوجد بينهم زعيم أو محرض، أو ما شاكل ذلك؟ - ليس هناك تنظيم أو زعامة، ولكن ثمة شاب يتسم بوقاحة مركزة يدعى علي عويس.
ضيق الشيخ عينيه متفكرا وقال: علي عويس! .. إني أعرف هذا الاسم أو على الأقل بعضه. - إنه ابن المرحوم عويس سواق الكارو.
استقام ظهر الرجل بغتة وتساءل: شقيق المدرسة؟! - شقيق زينب عويس المدرسة.
نظر الشيخ محمود إلى حذائه الأسود صامتا، فقال الشيخ عمار: لعله ليس من الحكمة أن نفتح المدارس لكل من هب ودب!
فتمتم الشيخ محمود وكأنما يحدث نفسه: إذن فهو شقيق زينب عويس. - يغادر كل صباح بيتا قديما أعد مدخله قديما موقفا للكارو ليذهب إلى الجامعة! - يقال إن شقيقته شقت طريقها بإرادة من حديد. - إنها عانس، مدرسة أطفال، ذات دخل ضئيل، وفي هذه الجحور يترسب الحقد يا مولاي، ويتستر على نفسه السوداء بالسخرية والنكات الجارحة. - ليتك دعوت شابا آخر. - إنه أسلطهم لسانا! - كان أبوه مريدا لأبي، وكان محمود السيرة رغم ضعته وفقره. - قلت لهم اختاروا من بينكم نخبة لمقابلة مولانا فكان أجرأهم على القبول، رفض البعض، وتردد البعض الآخر، ولكني أعتقد أن سيجيء منهم نفر لعلهم أصلبهم. - طليعة الخاطئين.
تنهد الشيخ عمار قائلا: لم تعرف حارتنا أمثالهم من قبل. - هو زمن الغرور والوقاحة. - يخيل إلي أن جامعاتنا معاقل أجنبية!
حدجه الشيخ محمود بنظرة عابسة فتراجع الرجل في استحياء قائلا: إلا من هداه الله وحفظه. - رحم الله أبي. ••• - لقد جئتك بالمعلمين ولكنك ترغب في دخول مدارس الدنيا. - لا بأس من ذلك يا أبي. - كل علم فهو من عند الله. - الحمد لله. - ولكن العبرة بالجهاد وعليه يتوقف الطريق. - سمعا وطاعة يا أبي. - لكي تكون خليفة كما ينبغي لك. - أجل يا أبي. - إن علوم الدنيا لها نهاية أما جهاد الطريق فلا نهاية له. •••
ولما خرج من أعماق صمته قال الشيخ عمار: ليرحم الله أباك. - ليرحمنا الله جميعا.
وطيلة الوقت لم ينقطع إنشاد المنشدين وترديد المريدين، ولكنه انخفض درجات كأنما يجيء من بعيد. تابعه الشيخ محمود بشيء من الحزن، ثم قال: يا للذكريات، عرفنا ذات يوم أسماء جذابة كأرشميدس ونيوتن، وحقائق غريبة كالجزيء والحركة، ولم أتصور وقتذاك أنها ستطاردنا بعنف كالزمن.
Shafi da ba'a sani ba
دخل خادم يستأذن للقادمين .. أشار الشيخ محمود للشيخ عمار فقام ليغادر المكان في أثر الخادم ولكنه أضاء النجفة قبل أن يغيبه الباب. دخلت مجموعة من الشبان، عشرة بالتمام، دون العشرين سنا، يرتدون البنطلونات والأقمصة نصف كم، ولا يخفى عن عين قدم ملابسهم. وقف الشيخ لاستقبالهم فتمت المصافحة بطريقة حديثة لم يتوقعها ولم يألفها. مد يده منتظرا تقبيلها ولكن شدت عليها الأيدي باحترام دون تقبيل. بدأ التعارف فقدم كل نفسه. الجميع طلبة بالجامعة، بالآداب خاصة، ما عدا واحدا بالهندسة، وآخر بالعلوم هو علي عويس. تفحصه بنظرة عميقة بقدر ما سمح الموقف الخاطف. لمح قسمات غير غريبة كنغمة قديمة عزفت بعد نسيان، ونظرة حركت باطنه بقوة مذهلة. فسرها بالحنق فاستعاذ بالله من الشيطان في سره ولكنها كانت ألصق بالقلق والحيرة.
قال باسما: حللتم أهلا وسهلا.
فأجاب أكثر من صوت: شكرا يا صاحب الفضيلة.
قلب عينيه في الوجوه الغالب عليها الشحوب وقال: لا تعجبوا لدعوتي إياكم، فهذا البيت مفتوح لجميع أبناء الحارة، وبمعنى آخر، هو بيت الجميع.
فقال أحدهم: فرصة طيبة وهبة سعيدة.
لاحظ أن الآخرين جالوا بأبصارهم في المكان وصاحبهم يتكلم، فشعر بحدة التناقض بين رثاثتهم وفخامة الجدران المحلاة بالأبسطة المزركشة والحصر الملونة وزينة الأرابيسك، والسقف الأبيض العالي تتدلى من وسطه النجفة البرنزية ومن أركانه الفوانيس الأندلسية. بدوا كحشرات حادة تغوص في شباك البساط الكبير الدسم.
قال الشيخ: نحن قوم مهمتنا في الحياة التواضع لله وحب الناس. - ما أجمل أن نسمع ذلك. - وإذا كان الحوار مفيدا بين الناس في كل حين فما أوجبه إذا نشب بينهم ما يدعو إلى سوء التفاهم.
صدقوا على قوله بإحناءات من رءوسهم العارية فقال: وطريقتي أن أدخل الموضوع رأسا، بلا لف ولا دوران، ثم أتركه يتفرع كيف شاء بعد ذلك.
استقرت في أعينهم نظرات استطلاع وتوقع فقال: بلغني يا سادة أنكم تخوضون في كرامتنا وتهزءون بنا؟
فأجاب أحدهم: لا يخلو الخبر من مغالاة. - أتنكرون ذلك؟
Shafi da ba'a sani ba
فأجاب آخر: لعل مزاحنا علا أكثر مما ينبغي.
قال الشيخ محمود ممتعضا: لو جاء ذلك من خارج حارتنا ما اكترثنا له، بل حتى وهو من صميم حارتنا كان يمكن أن ألقاه بالصبر والحلم لولا أن بعض المريدين هموا مرة بالدفاع عن مقدساتهم فآلمني ذلك جدا، إذ إننا قوم مهمتنا الأولى في الحياة هي حب الناس لا الاعتداء عليهم، وبخاصة إذا كانوا من أبنائنا، لذلك قررت أن أدعوكم لتتضح لأعيننا المواقف والسبل، ولنتعاون على تحكيم الحكمة والرشاد فيما بيننا.
قال صوت: سلوك حميد خليق بفضيلتكم.
قلب عينيه في وجوههم مرة أخرى ثم تساءل: ألا تعرفون ماذا يعني الأكرم وطريقته لحارتنا؟
ساد الصمت قليلا حتى خرج منه علي عويس قائلا: الحق أن نوايانا حسنة وإن يكن مزاحنا عاليا، ولكي تعرفنا على حقيقتنا فاعلم يا سيدي أننا طلاب علم، نحب الحقيقة أكثر من أي شيء في الوجود، يؤسفنا أننا أزعجناك.
عاوده القلق لدى سماع صوته ولكنه كبح انفعالاته وقال: نحن لا يزعجنا شيء، حتى الموت نفسه لا يزعجنا، ونحن طلاب الحقيقة منذ الأزل وإلى الأبد.
فقال علي عويس: لعله اختلاف في وجهة النظر. - لم يطالبكم أحد بالدخول في طريقتنا. - الآراء المتناقضة يا سيدي لا يمكن أن تعيش جنبا إلى جنب في سلام.
فتساءل الشيخ بحرارة: ألا تعلمون أنه لولا الأكرم، لولا الأكرمية، لما كان لحارتكم ذكر ولا لأهلها شأن أو أمل.
فقال علي عويس بثبات: الدنيا تتغير بلا توقف ولا رحمة يا مولانا. - ولكن الحقائق باقية خالدة. - التغير هو الشيء الوحيد الخالد يا مولانا! - التغير؟! - التغير في كل يوم، في كل ساعة، في كل لحظة. - أراك تتعلق بظاهر كاذب خداع. - معذرة يا سيدي فالظاهر الكاذب هو الجمود.
ابتسم الشيخ مداراة لضيقه وقال: لا وقت الآن لمناقشة الظاهر والباطن وإلا طال النقاش بنا دهرا، بيد أنه واضح أنكم لا تؤمنون بطريقتنا؟
Shafi da ba'a sani ba
لم ينبس أحد منهم بكلمة فقال الشيخ: الصمت جواب، فهل تؤمنون بطريقة أخرى؟
فأجاب أحدهم: لنا في الحياة سبيل آخر غير الطرق! - إجابة مفجعة، ترى ماذا تأخذون على طريقتنا؟
فسأله علي عويس: هل يتسع يا سيدي صدرك لصراحتنا؟ - إنه أوسع مما تتصور.
فقال أحدهم: الحياة في حارتنا معاناة أليمة.
وقال آخر: إنها صحراء مخيفة مليئة بالأكاذيب.
وقال علي عويس: صغار المريدين، وهم الكثرة الغالبة، حفاة خانعون.
فقال الشيخ بعجلة: إنهم راضون، والرضا مطلب روحي مضنون به على غير أهله. - لا يملكون حيال قوتكم إلا الرضا وإلا ماتوا جوعا، ولكن لا شك أنهم يمرون حيارى بهذا البيت الكبير الغارق في الرفاهية.
قال الشيخ بحدة لأول مرة: بيت آبائي وأجدادي مذ أقامه القطب الأول.
فقال الشاب بجرأة جنونية: أقيم بأموال المريدين كسائر العمارات الشاهقة في وسط المدينة.
قام الشيخ محافظا على هدوئه ما أمكن. تقدم خطوات مستقبلا باب البهو المفضي إلى الحديقة كأنما ليرطب انفعالاته. تمتم دون أن يلتفت إليهم: قاتل الله الحقد والحسد.
Shafi da ba'a sani ba
فقال الشاب ثملا باستهتاره: إنهما وقود الحق إذا اختل الميزان.
فقال الشيخ بازدراء: وقودنا الحب وحده. - ذلك يا سيدي أنك لم تذق عض الجوع ولا ضراوة الكدح ولا رهبة القوة الغشوم.
وتحول الشيخ إليهم بنظرة نافذة وهو يقول: إذن فهذه هي المسألة! - المسألة؟! - إنكم تريدون نقودا؟! - بمعنى ما، ولكننا لا نريد رشوة. - ماذا تريدون؟ .. صارحوني كما وعدتم.
أجاب أحدهم: ليس في عقولنا مطالب أوضح مما نطقت به شكاوانا.
وقال آخر: يريحنا أحيانا أن نطالب بنقيض ما هو قائم!
فعبس الشيخ قائلا: لا يخلو كلامكم من خدر هو التمويه نفسه، حسن، إني أشم رائحة فوضوية!
فقال علي عويس: لا تهمنا الأسماء، وفي الوقت نفسه فهي لن تخيفنا. - لعلكم تحلمون بالقتل؟ - القتل؟! - بدأتم بالسخرية وستنتهون بالدم. - أحلامنا تحوم حول هدف واحد هو التقدم. - يا فتى، إني جامعي مثلكم! - نعرف ذلك يا سيدي.
فعاد إلى مجلسه وهو يقول: فلنتحدث كزملاء. - هذا شرف كبير لنا يا سيدي.
فابتسم مستردا بذلك هدوءه وقال: إنكم شباب في مقتبل العمر، أمامكم فرص لا تحصى للتعلم من الكتب والحياة والزمن، فأي خطأ تعثرون به قابل للإصلاح، لذلك لا يزعجني كثيرا أنكم لا تؤمنون بشيء. - لا نؤمن بشيء؟! - أتؤمنون بشيء؟ - إن من يعمل فلا بد أن يؤمن. - كثيرون يعملون كالآلات. - ولكننا نعمل بحماس صادق. - فلعله الطموح؟
هز علي عويس رأسه هزة غير القانع ثم تساءل: ألا يستحق العلم أن نؤمن به يا مولاي؟ - إنه معرفة باهرة، وهو من أحب القراءات إلى نفسي. - وما رأيك فيه؟ - إنه باب من أبواب العبادة. - وقدرته على السيطرة والتغيير؟ - خير كثير وشر كثير. - هو خير خالص أما الشر فيجيء من أوضاع إنسانية معوجة. - فما الذي يوجه الإنسان نحو الخير؟ - وعي حكيم في مجتمع سليم.
Shafi da ba'a sani ba
قال الشيخ بنبرة راسخة قوية: لا إيمان حقيقي إلا بالله ولا خير حقيقي إلا بالله وفي سبيل الله.
وساد صمت فترامى من الحديقة نقيق، وخشخشة أوراق، على حين ارتفعت من الحارة ضجة عابثة ضاحكة. جعل الشيخ ينقل عينيه بينهم. لم يستطع تجنب النظر إلى عويس. وقال: لعلكم تؤمنون بالإنسان، هكذا يقال كثيرا في هذه الأيام، ولكن ما قيمة الإيمان بالإنسان بغير الإيمان بالبطولة؟
أجاب أحدهم: لا قيمة لشيء بغير البطولة. - أي ضمان للبطولة - وهي تضحية بالنفس والمال - بغير إيمان كامل بالله؟! - من المؤمنين من لا بطولة لهم والعكس صحيح! - على أي أساس تقوم بطولاتهم؟ - إيمانهم بأنفسهم وبعالمهم! - غير كاف وحده. - التربية الرشيدة. - ولا هذه.
فقال آخر: قد نستعين في ذلك بالعقاقير كما نستعين بها على مقاومة الأمراض!
ابتسم الشيخ على رغمه ولكنه قال بامتعاض: حبوب للتضحية .. حبوب للشجاعة .. حبوب للأمانة .. ما شاء الله!
فقال علي عويس منفعلا: لا تسخر منا يا سيدي، إن جميع ما حولنا يثير الحزن الشديد، لقد ضقنا بكل شيء ونريد لكل شيء أن يتغير، وقد ورثنا هذا العالم عن آباء وأجداد ظنت بهم الحكمة يوما ما، فحق لنا أن نتنكر لهم ولتراثهم.
فتمتم الشيخ ممتعضا: أسفي على الآباء والأجداد. - نحن أجدر بالرثاء منهم.
تفكر الرجل قليلا ثم قال: الآن عرفت لم تسخرون من الطريقة وأهلها!
فقال أحدهم: إنك يا مولانا رجل مثقف، وليس جمعك بين البدلة والعمامة عبثا، وإن خيرا كثيرا يرجى منك لحارتنا. - ترى ماذا يرجى مني؟ - لا شيء يخفى على فطنتك. - أعطني مثالا يا بني.
فقال علي عويس: أن تمزق ستار الأكاذيب الذي يغشى حارتنا. - الأكاذيب؟! - كالتناقض بين شعار الزهد والممارسة الفعلية للتسلط واقتناء العمارات الشاهقة!
Shafi da ba'a sani ba
وقال آخر: والكف عن التغني بالخرافات. - الخرافات؟!
فقال علي عويس: معذرة عن صراحتنا ولكننا بتنا نكره الكذب حتى الموت. - زيدوني صراحة! - نحن مقتنعون بأن شيئا لا يخفى عن فطنتكم.
أعقب ذلك صمت ثقيل .. طال الصمت فلم يجرؤ أحدهم على خرقه. وبذل الشيخ جهدا جبارا ليخفي انفعالاته. ونهض باسما. قال: ها قد تم التعارف بيننا، وذاك من فضل الحوار كما قلت في بدء الاجتماع.
فقال أحدهم: نرجو أن تغفر لنا صراحتنا.
فقال الرجل بهدوء: ليغفر لنا الله جميعا.
صافحهم واحدا واحدا. غادروا البهو. ولما خلا المكان اكفهر وجهه. وروح عن انفعاله بالحركة ذهابا وجيئة. لم ينتبه إلى عودة الشيخ عمار حتى مثل الرجل بين يديه. وضع يده على كتفه وهو يقول: كما أخبرتني وأكثر.
تمتم الرجل: أبالسة يا مولاي. - يريدون سلب أموالنا والقضاء على نفوذنا وإهدار قيمنا. - وهم يتكاثرون وتتسلل زندقتهم إلى النفوس الضعيفة. - وابن سواق الكارو صاروخ مدمر. - قلت إنه أسلطهم لسانا. - بل هو شر من ذلك. - والعمل يا مولاي؟
ابتسم الشيخ محمود قائلا: نحن قوم الحب غايتهم الأولى والأخيرة.
فابتسم الشيخ عمار بدوره قائلا: الآن عرفت سبيلي يا مولاي. - ليكن الله في عونك. - سأفعل ما يمليه الحب علي، حبنا لمقدساتنا، وحبنا للمريدين الأبرياء!
وتبادلا نظرة طويلة.
Shafi da ba'a sani ba
2
جلس على الديوان تحت النجفة يرنو إلى الحديقة بعينين نصف مغمضتين. إلى جانبه استكنت العمامة فبدا شعره الأسود غزيرا مفروقا بعناية لم يتطرق إليه أثر لشيب. ومن الحارة ترامت نداءات باعة الصباح مترنمة. وفي الحديقة تألقت أوراق التوت والحناء والأعناب تحت دفقات حارة من أشعة الشمس. استغرق في تأملات حتى انتبه على حفيف ثوب. نظر نحو جارية سوداء طاعنة في السن جدت في البحث عنه بعينين عمشاوين .. ناداها برقة: أم هاني.
اتجه وجهها النحيل الضامر نحو الصوت ثم همست: امرأة تريد مقابلتك.
جاءت امرأة في أواسط العمر، صافية السمرة، تعكس عيناها السوداوان نظرة جادة متجهمة تستقر في أعماقها كآبة ثابتة. لبس العمامة ووقف في دهشة أوشكت أن تكون انزعاجا لولا نجاحه في ضبط مشاعره. قال: زينب .. أهلا .. تفضلي.
مد لها يده فصافحته بعد تردد ودون أن يند عن وجهها أي تعبير إنساني. - كيف حالك، أهلا أهلا، تفضلي بالجلوس.
جلست على مقعد قريب من الديوان. ظل واقفا وهو ينعم فيها النظر ثم قال: لم أرك منذ عمر طويل، عمر طويل حقا، ولكني تابعت نجاحك بإعجاب.
قالت بلهجة قاطعة في التركيز على الهدف الذي جاءت من أجله: أرجع إلي أخي!
حدق فيها متسائلا وقال: ماذا عن أخيك؟ لقد اجتمعت به مع بعض زملائه في هذا المكان منذ أيام قلائل.
لازمت الصمت كأنها لم تسمع شيئا فواصل حديثه: دعوتهم بعد أن بلغني عنهم ما بلغني، لا شك أنك سمعت بما يقال، وتناقشنا طويلا، والتزمت في حديثي معهم بالرفق والسماحة وسعة الصدر، ولم أضن عليهم بالنصح الرشيد.
فقالت دون أدنى تأثر بكلامه: أرجعه إلي من فضلك! - ماذا تعنين؟ - أنت تعرف ما أعنيه تماما. - صدقيني ...
Shafi da ba'a sani ba
فقاطعته بهدوئها الميت: لقد ألقي القبض على الجميع فجر اليوم. - علمت بذلك الساعة فقط ولكني لم أفهم معنى لقولك بعد.
فقالت دون مبالاة بأقواله: لذلك أكرهت نفسي على هذه الزيارة. - الحق أنني نسيت لدى رؤيتك كل شيء. - إن الأخطاء ينسي بعضها بعضا.
فقال محتجا: يا للعجب، إنك تسيئين بي الظن! - نعم. - مغالاة جاوزت كل حد. - أرجع إلي أخي. - أي تهمة وجهت إليهم؟ - يقيني أنهم أبرياء. - إذا كان بريئا فسوف يرجع إليك دون شفاعة. - لست أطلب شفاعتك، ولكني أطالبك بإصلاح خطئك.
قطب قائلا: اقتلعي هذا الوهم من رأسك. - ليس وهما ما أعتقد، إنك أكبر من أي وهم! - سامحك الله. - إنه يسامح الولايا والضعفاء والمخدوعين والمغلوبين على أمرهم، ولكنه لا يسامح الأشرار والمنافقين. - صدقيني ...
فقاطعته: لا أستطيع أن أصدقك. - لا دخل لي فيما حصل لأخيك. - أنت أبلغت عنه أو أحد رجالك بإيعاز منك.
هز رأسه هزة المتسامح وقال: لم يكن بحاجة إلى من يشي به، ارتفعت أصواتهم في كل مكان، ودوت ضحكاتهم بالآراء الهدامة. - ليس فيما قالوا جريمة ولكن انقلب الحال بعد مجيئهم لمقابلتك. - ماذا تعنين؟ - أحلام شباب لا تؤذي أحدا من الأبرياء، ولكن مادت الأرض عندما تطرق الحديث إلى شخصك. - كلا، ولكنهم لا يؤمنون بالله، لا يؤمنون بشيء. - أتؤمن بالله أنت؟ - أيتها الجارة .. اتقي الله. - ماذا لديك من درجات الإيمان التي تحفظها عن ظهر قلب؟! - لا تحكمي على رجل لم تريه منذ عمر طويل. - كثيرون - حتى من مريديك - يعرفونك على حقيقتك. - لا تعرضي بقوم يدينون لي بالولاية. - إنهم يطيعون نداء المصالح. - ليسعك حلمي إلى ما لا نهاية. - لم يغضبك كفره المزعوم ولكن أغضبك رأيه في عماراتك الشاهقة في وسط المدينة. - ليغفر الله لك سوء ظنك!
فعادت تقول بهدوئها الميت: أرجع إلي أخي. - يتعذر علي التدخل في مثل تلك الأحوال. - ما دام في قدرتك أن ترسله إلى السجن فلن يتعذر عليك إخراجه.
جلس الشيخ على الديوان. ابتسم ابتسامة من يأسى على نفسه. قال معاتبا: ليغفر الله لك!
ثم واصل حديثه: أعتقد أن الإجراءات التي اتخذت معهم لا تعدو أن تكون نوعا من الزجر ليس إلا، ومن أجل خاطرك سأبذل سعيا حميدا ولكني لست واثقا من النتيجة، أرجو أن تعدلي عن سوء ظنك بي، إن اتهامك فوق احتمالي، ولا يليق بمركزي سواء في الطريقة أو في الحارة، ولقد حرمت على أتباعي حق الدفاع عن مقدساتهم إيثارا للحب والسلام. - إني عاجزة عن تصديقك؛ لدي من الأسباب ما يحملني على إساءة الظن بك دائما وإلى الأبد، ولكني ما كنت أتصور أنك ستلاحقني بالأذى جيلا بعد جيل! - إني بريء مما ترمينني به. - إني أصدق قلبي وهو خير دليل. - صدقيني. - كلا، ولكن أرجع إلي أخي. - وعدت بالسعي. - سيعرف أهل المقبوض عليهم الرجل المسئول عن ذلك آجلا أو عاجلا.
فقال بحدة: جيل شرير من الأبالسة، أوغروا الصدور بضلالهم، ولا أحد من العقلاء يضمر لهم أي عطف. - إنهم أفضل مما تظن. - أهذا رأيك؟ - يودون الخير من أعماق قلوبهم. - هل حدثك أخوك عن آرائهم؟ - أعرف أحلامهم. - يا لخيبة الأمل، كدت أطالبك بالمعاونة على تهذيبه. - لقد أحسنت تربيته. - إذن كيف نشأ على الحقد والحسد والتعلق بأتفه ما في الحياة؟! - أتفه ما في الحياة؟! - زينة المال الكاذبة وما يتبعها من شهوات.
Shafi da ba'a sani ba
تنهدت زينب وقالت: يا لك من رجل تفوق جرأته الخيال!
فرق بينهما صمت. أراح رأسه بالنظر إلى الحديقة. تلقى دفقة من انفعالات طارئة. قال وكأنما يخاطب نفسه: يا للذكرى، ها هي نفحة من الماضي تهب كأنما تهب من بستان، حاملة عرف عرق خاص، لعله عرق الإبطين، ناشرة صورا مطوية في قلب الزمن، تثير الحنين بقدر ما تثير الشجن. - ماذا تعني؟
عاد يحدق فيها ثم قال: ما زلت جميلة كما كنت.
فهتفت بحدة: يا لك من رجل مريض! - ليكن لسانك نفخة من ذكريات لا نصلا للطعن والقتل. - كأنك إبليس بلحمه ودمه.
فقال باسما في غموض: هيهات أن تعرفي عذابات رجال الطريق. - ولكني أعرف المنافقين.
فقال متوغلا في الانفعالات الطارئة: القلب نبع يفيض بمنصهر المعادن النفيسة والخبيثة، والسرور توءم الحزن. - إنك تهذي.
ولكنه باخ. أفاق تماما. تراخت شفتاه امتعاضا. قال بفتور: أرجو ألا يخيب مسعاي في إرجاع الجميع إلى بيوتهم. - وأرجو ألا أضطر إلى المجيء مرة أخرى. - بوسعك أن تفعلي شيئا لتجنيب حارتنا ويلات نزاع يوشك أن ينقلب داميا. - بوسعك أنت أن تفعل هذا خيرا مني.
تساءل عابسا: أتجرين مجراهم؟! أتطمعين أنت أيضا في مالي الحلال وولايتي المستمدة من كرامات جدي الأكرم؟! - إني أصغر شأنا من أن أنبهك إلى ما ينبغي لك. - بفضل طريقتنا يؤمن أحقر رجل في حارتنا بأنه أصل الوجود وغايته!
فقامت وهي تقول: هل أغنانا ذلك عن تعاستنا شيئا؟!
فقام أيضا وهو يقول محتدا: إنك على وشك الزيغ يا زينب. - إني منتظرة وعدك. - كان أبوك مريدا صادقا. - رحمه الله. - مات سعيدا كما يجدر بمؤمن. - ولكنه عاش عيشة مريرة! - أهم ما في الحياة هو الموت!
Shafi da ba'a sani ba
مضت نحو الباب وهي تقول: إني منتظرة وعدك. ••• - في هذا البيت المقدس! وفي هذه الحجرة المباركة، عليك لعنة الله. •••
هم بقول شيء قبل أن تختفي ولكنه أطبق فاه، ثم ذهب إلى النافذة فأزاح الستارة وألقى نظرة يتابع مسيرها.
3
دخل بهو الاستقبال فرأى الشيخ عمار في انتظاره. صافحه دون أن يخفي دهشته وهو يتساءل: خير. ما جاء بك في هذه الساعة وقد أوشك الليل أن ينتصف؟
أجابه الرجل وهو يغض البصر: لا غرابة أن نوجد في هذا البيت في أي ساعة من نهار أو ليل. - جواب حسن.
جلسا والشيخ يمسح وجهه بمنديله ويقول: في الخارج عاصفة ترابية أخشى أن تدفن الحارة دفنا، في هذا الجو يضيق الإنسان بالحياة وتضيق الحياة بالإنسان، وعجيب أن نكون من تراب ونجزع هذا الجزع للفحة منه، وفي كل خطوة يصادفك شاب من أولئك الشبان، لقد بذلنا لهم مسعى طيبا ولكنهم لا يبدون شاكرين، كلا، إنهم أبعد ما يكون عن الشكر، وما أجدر اللئام بأن يظنوا الاستجابة الطيبة ضعفا، وذاك الشاب المتهور حدجني اليوم بنظرة متحدية، وقديما قيل: اتق شر من أحسنت إليه، اللعنة، لم تعد الحارة بالحارة التي أولتنا الإمامة ولا الزمان بالزمان الذي طاب لنا، أكنت تنتظرني يا شيخ عمار؟
غمغم الرجل: نعم يا مولاي. - ماذا أرى؟! .. إن وراء نظرة عينيك أنباء لا تعد بخير! - حفظك الله من كل سوء يا مولاي. - ماذا حدث؟ هل وقع انقلاب خطير في نظام الكواكب؟! - الدنيا بخير، ولن ينال من كمالها عبث الأبالسة.
تساءل الشيخ بضيق: ماذا وراءك يا رجل؟ - نحن قوم خلقنا الله لنواجه الشدائد بقلوب أشد منها.
فقال بجزع: هات ما عندك، كلما استفحلت المصيبة كان الإيجاز أليق بها!
فقال الشيخ عمار بعناد: ليس من الوفاء أن نخفي عنك أمرا باتت تلوكه ألسنة الكثيرين.
Shafi da ba'a sani ba
قال بنبرة غاضبة: تكلم. - ثمة نشرة مطبوعة كتبت بمداد حقد أسود. - نشرة مطبوعة؟ - نعم. - للتشهير بنا؟ - ما يشهرون إلا بأنفسهم.
وأخرج من جيب جلبابه نشرة على هيئة كتاب بغير غلاف مطبوعة بالرنيو، وسلمها إليه مطرقا. تلقاها الشيخ متجهما، تفحص صفحتها الأولى، فرها بسرعة، ثم عاد إلى صفحتها الأولى. - يا له من عنوان غريب، «ماذا تعرف عن الأكرمية؟» ولكن من ذا الذي لا يعرف كل شيء عن الأكرمية؟!
نظر في عيني الرجل متظاهرا بالاستهانة ثم سأله: أقرأتها؟ - نعم يا مولاي. - مهاترات؟! - نفثات شيطان رجيم. - هل وزعت على نطاق واسع؟ - على جميع من يعرفون القراءة في حارتنا. - متى حدث لك؟ - لم أدر بها إلا اليوم. - لقد تم الإفراج عن الأبالسة منذ عشرة أيام!
أطرق الشيخ عمار صامتا فتساءل الشيخ محمود ساخرا: هل يحرمنا ما جاء بها من الحياة أو يصد الحياة عنا؟ - معاذ الله يا مولاي! - نحن نعرف أعداءنا كما نعرف أصدقاءنا.
ومضى يقرأ بسرعة وهو صامت وتند عنه كلمات من آن لآن. - توجد مقدمة، ما شاء الله، كما يليق بالكتب العلمية، ماذا تقول المقدمة؟ .. «الحقيقة هي الحقيقة، لا تحتاج إلى أسباب تبرر نشرها على الناس، علينا أن نتقبلها دون تحريف وبشجاعة تليق بالبشر وإن تغير أسلوب حياتنا ليتوافق معها، فنحن لا ننشرها بقصد الإساءة إلى أحد ولكن إيثارا للحق ونشدانا للخير.» ما شاء الله، أي حقيقة يا أوغاد؟ أبواب ثلاثة؟ أي أبواب أيها اللئام؟ الباب الأول عن «البيت الكبير»، والثاني عن «الأكرم صاحب الطريقة الأول»، والثالث عن «السلوك في الأسرة الأكرمية»، ما شاء الله .. ما شاء الله.
وراح يقرأ مستغرقا صامتا والرجل يراقبه بإشفاق. وعلى حين بغتة هتف: اللعنة .. الجحيم.
ورجع إلى الأسطر وقتا آخر ثم صاح بحنق: الحمقى يتناسون أن الآلات الحادة قادرة على تحطيم الجماجم الخاوية إلا من ظلمات الكفر.
وواصل القراءة بوجه مكفهر وشفتين قلقتين حتى هتف: أشهد الله أني قوة إذا شاءت اقتلعت أعداءها الجبناء من جذورهم المغروسة في الطين.
وانكب على النشرة بنظرات مفترسة وأسارير تنضح بالعنف حتى قال بصوت متحشرج: إذن فلتتوقف الأرض عن الدوران أو فلتدر في عكس اتجاهها.
رمى بالنشرة أرضا. انتتر واقفا. ورغم غضبه الأحمر بدا منهار القوى مهدم البنيان. هرول إلى مدخل الحديقة. ضرب الأرض بقدمه. ثم رجع إلى موقفه مسددا بصره إلى الشيخ عمار الذي وقف بدوره تأدبا، وقال: أي وقاحة، أي جنون، أي تجديف، أي دعارة!
Shafi da ba'a sani ba
وكور قبضته ثم استرسل: الهذيان لغة دارجة، درجة الحرارة الطبيعية هي درجة الموت، التاريخ قتل غيلة، المسك سم زعاف، الأضرحة الطاهرة متاحف حشرات منحطة، لا أنت أنت ولا أنا أنا، ولا تعجب للدواب إذا زحفت علينا لتعلمنا كيف يكون السلوك في هذه الحياة اللعينة!
قال الشيخ عمار بإشفاق: نحن في موقف يقتضينا أقصى ما نملك من حكمة. - والجنون لماذا خلق إذن؟ - مولاي، علينا بالحكمة التي نبشر بها وإلا أفلت منا الزمام. - أيها العجوز، لقد كنت الذي يحرضني وكنت الذي يحذرك. - هذا موقف جديد لم يسبق لنا مواجهته من قبل.
فلوح بيده وهو يصيح: الويل له .. الويل لهم. - نحن لا نعرف المجرم إلا ... - إلا؟ - إلا الظن. - لا تغالط ضميرك. - عيون رجالنا في كل مكان فلننتظر. - سواد الكتاب برهان قاطع على مداد الحقد الذي استمد منه! - الحكمة .. الحكمة. - وندعه يقوم بيننا ساخرا مجدفا؟! - لنتلق الضربة بعقل ولندبر بعقل آخر. - لو تفشت هذه الأكاذيب لقضت علينا. - الأكاذيب لا تقضي على إنسان ولكن قد يقضي الإنسان على نفسه.
صاح بغضب: أكافح أنا أمواج الغرق العاتية على حين تجلس أنت على بر السلامة تتغنى بالأقوال الحكيمة! - أضرع إليك باسم صاحب الضريح ألا تقدم على خطوة إلا بعد امتحان وتدبر وتفكر. - لقد أذهلتك الضربة.
فقال عمار بهدوء: سنضرب ضربتنا ولكن علينا أولا أن ندرأ عنا الشبهات. - وكيف يتأتى لي أن أمشي في الحارة مرفوع الرأس بعد اليوم؟ - المؤمنون بنا أضعاف الكافرين. - ولكن الكافرين أقوى على الشر. - لم يئن أوان المعركة بعد، علينا ألا ننفرد برأي، وعلينا أن نرد على النشرة بالعلم واليقين فلن يبدد العراك ظلماتها.
فقال الشيخ متأوها: إجراءات من طبيعتها أن تطول أكثر من ليلتي الحالكة!
فقال الرجل بدهاء: المعركة قبل جلاء الحق اعتداء، ومن شأن الاعتداء الغاشم أن يكسبهم عطفا لا يستحقونه، وسوف يشجعهم ذلك على مقابلة الاعتداء بمثله وهم عدد لا يستهان به، ورجالنا ورجالهم في النهاية ينتمون إلى هذه الحارة التي كتب عليها العناء.
فتساءل في جزع: متى وكيف نبدأ ؟
فأجاب الرجل بعد تردد: هنالك رجل لا غنى عنه في هذا المأزق.
قطب الشيخ متمتما: الشيخ تغلب الصناديقي؟ - نعم.
Shafi da ba'a sani ba
قال ممتعضا: لقد هجرنا منذ عهد بعيد، ورأيه فينا غير خاف على أحد! - أعلم ذلك يا مولاي ولكنه ما زال إماما من أئمة الطريقة، ولن يتردد في الدفاع عنها بعلمه الغزير.
تنهد ثم قال: عليك بإقناعه بالمجيء إلي. - سأذهب إليه مع الصباح الباكر. - اذهب إليه في الحال. - مولاي .. لقد انتصف الليل. - اذهب إليه في الحال، وإن بدا منه اعتراض فذكره بأبي إمامه وصديقه.
أحنى الرجل رأسه ومضى والآخر يقول: قل له: إن رياحا مليئة بالأوبئة انقضت على الطريقة تروم اقتلاعها من جذورها المقدسة.
4
لاح في مدخل البهو. تقدم متوكئا على عصاه بعد أن أوصله الشيخ عمار ثم ذهب، في جلباب أبيض بسيط ناصع البياض تطوق وجهه الضامر الوضيء لحية بيضاء مسترسلة حتى منتصف الصدر. ورغم طعونه في العمر تألقت عيناه بحيوية جذابة ونشاط روحي أضفى على أساريره جمالا يجمع بين النضارة والعتاقة اختصت به الشيخوخة المستكنة في أحضان البراءة والتقوى. هرع الشيخ محمود إليه فصافحه بحرارة وهو يداري حرجه بابتسامة، ثم مضى به إلى الديوان فأجلسه وجلس إلى جانبه. أرتج عليه القول لحظات ثم قال: حللت أهلا وسهلا في بيتك بعد غيبة طويلة!
فقال الشيخ تغلب ببساطة: كتبت علينا التلبية عند النداء.
لم يرتح الشيخ محمود للإجابة تماما ولكنه قال: أعترف بأن غيبتك إنما ترجع إلى تقصيرنا.
فقال الرجل بصراحة: هذا حق!
ابتسم الشيخ رغم غمه وكمده وقال: كأنك أصغر مني سنا، إنك رجل سعيد، إني أغبطك! - خفف الله عنك. - دعني أشكر لك تفضلك بالمجيء في هذه الساعة من الليل.
فقال الشيخ تغلب بنفس البساطة والصراحة: كنت من دعوتك لي على انتظار!
Shafi da ba'a sani ba
صدمه قوله. آذى مشاعره. ولكنه تساءل: حقا؟ - نعم. - لعل النشرة بلغتك؟ - نعم.
فقال بكآبة جديدة: لا أجد لها أثرا في وجهك الكريم! - أي أثر توقعت؟ - الأثر المنشود لدى إمام من أهل الطريقة.
فارتفع صوت تغلب الصناديقي وهو يقول: لم يعد للطريقة أهل!
فانقبض قلب الشيخ محمود وقال: الوقت غير مناسب لإثارة الخلافات القديمة.
فقال العجوز بحدة: لم يبق من الطريقة إلا الأغاني والأذكار والنذور والعمارات! - بقي الإيمان وهو كفيل بتجديد الحياة في أي لحظة. - ليست الولاية أن ترث العرش ولا أن تقرأ كتب الأقدمين والمحدثين، ولكنها طريق طويل شاق لا يقدر عليه إلا أهل الإيمان الحق. ••• - تزوج، وابدأ الطريق، وإلا فاتك قطار الرحمة إلى الأبد. ••• - لم نتخل عن الإيمان ساعة، وهو يتبعنا كظل من العذاب، ولكننا وقعنا في أحابيل زمان عجيب. - أي زمان يمنع الرجل الصالح من التطلع إلى الأفق الأبدي؟!
تنهد الشيخ محمود قائلا: ليتنا ننسى خلافاتنا في هذه الليلة المكشرة عن أنياب الشر. - أنسيت أنني لم أرك منذ كنت شابا وها أنت تناهز الأربعين؟ - قاطعتنا ونبذت عشرتنا يا شيخ تغلب. - ذلك أني أضن بوقتي على غير الاجتهاد. - لا يجوز أن تنقطع الأسباب بيننا. - رحم الله أباك، أما أنت فلم تذكرني إلا حين هبت الأعاصير على مجدك!
فامتعض الشيخ محمود وقال مصححا: بل على الطريقة يا شيخ تغلب. - الطريقة؟! .. لقد تقوضت على يديك. - لن أناقشك ولكني أطالبك بواجب الدفاع عنها.
ثم بتوكيد: إنك رجل القلم، مؤلف أشعار الأكرمية وفلسفتها والعالم بأسرارها وأول من يحق له الدفاع عنها. - أقرأت النشرة؟ - قرأت نفثات الأبالسة المدسوسة فيها.
هز العجوز رأسه وقال: تريد أن أرد عليها؟ - هذا ما أطالبك به. - لا رد عندي عليها! - ماذا؟
ندت عن الشيخ محمود صيحة توجع وقطب غاضبا، ولكن الآخر قال بهدوء: ليس عندي ما أرد به عليها. - ماذا تعني يا شيخ تغلب؟ - أعني ما قلت حرفيا. - أتعني أن ما جاء بها حق؟! - أجل يا مولاي.
Shafi da ba'a sani ba
ضحك ضحكة جافة باردة وحملق في وجه العجوز بذهول. - إنك لا تعني ما تقول. - قلت: إنني أعنيه حرفيا.
ضرب يدا بيد وصاح: إلي بعقل جديد لأقترب من هذه الأحاجي! - يلزمك عقل جديد حقا. - عما قليل سيعتلي الجنون عرش الطبيعة! - لم يجد جديد يدعو إلى ذلك. - لقد اختلقوا الأكاذيب بغية القضاء علينا . - لم يختلقوا أكاذيب ولكنهم عرفوا السبيل إلى مخطوطات قديمة بدار الكتب. - زيفها ولا شك أعداء الأكرمية؟ - بل وضعها مريدون من أصدق المريدين القدامى. - مريدون صادقون؟ .. أنت تقول ذلك؟ - نعم. - أكنت على علم بها من قبل؟ - نعم ولكني تكتمتها لاعتقادي بأنه قد يساء فهمها. - لا أصدق أنهم كانوا مريدين صادقين.
فقال الرجل بنبرة تنم على الاحترام: كانوا ثلاثة، الشيخ أبو كبير أولهم وقد عكف على دراسة بيوت الأكرمية، والشيخ الدرمللي ثانيهم، وكان حجة في معرفة رجال الأكرمية، والشيخ أبو العلاء ثالثهم وقد ولع بتأريخ أهواء القلوب.
فصاح الشيخ محمود: أوغاد كذابون! - بل مريدون صادقون، كان الأولان تلميذين للقطب الأكبر عبد الله الأكرم، أما الثالث فكان مريدا لوالدك رحم الله الجميع. - لن أصدق أن الشمس تشرق من المغرب ولو أجمع على ذلك المريدون. - إلى الشيخ أبو كبير يرجع ما ورد في النشرة عن البيت الكبير.
فقال الشيخ محمود بحنق: هذيان ما يقول، من يصدق أن بيتنا هذا ما هو إلا فرع من فروع لا حصر لها من بيوت الطريقة لا أنه الأصل الذي انبثق منه النور؟! - لم يقصد الحط من بيتكم، كلا، عني بدراسة بيوت الطريقة الأكرمية فسافر من أجل رسالته إلى الشام وشمال إفريقيا وإيران والهند، ثم قرر الحقيقة التي لا ضير منها وهي أن هذا البيت الكبير ما هو إلا مقام أنشأه الأكرم، بيت من مئات البيوت التي سبقته إلى الطريقة، بل هو آخر بيت وصل إليه النور والهدى. - يا للفظاعة. - قل يا للحقيقة! - جدي هو مؤسس الطريقة وبيته هو الأصل والمركز. - إنك غاضب للكبرياء لا للطريقة، طريق الله مفتوح للجميع، وشرف العزة فيه للواصلين مهما يكن موقعهم.
فهتف محمود وكأنما يخاطب نفسه: الهواء يختفي ليحل محله الحزن، ولن يوجد بعد اليوم مبرر لكي يحافظ العاقل على عقله ولا ليبرأ المجنون من جنونه. - تأمل ولا تحزن، كم صادف أبو كبير في تجواله من بيوت ظن أصحابها أنهم الأصل والمركز. - ود أن نضيع في زحمة لا نهائية! - النور لا يضيع أبدا ولا يفنى. - إنك تسلبني العزة لتهبني بلاغة لفظية. - إنك تعاني لأنك لم توجه إلى الطريق قلبك .. لم يشغله إلا الجاه. جاه وريث البيت الكبير، أما الأكرم نفسه فقنع بأن يقبس من النور شعلة أصلها في هذه الحارة التي أصبحت بفضله مباركة.
قطب الشيخ محمود وقال: سوف يحتاج الناس لرؤيتنا إلى مجهر كبير! - المهم أن يروا شيئا يستحق الرؤية.
قام الشيخ محمود فذهب إلى باب السلاملك ثم رجع وهو يتنفس بعمق. وترامى من الحارة صوت يصيح كالمستجير «يا سيدي الأكرم على بابك» فضحك الشيخ ضحكة قصيرة لم تنبسط لها أساريره إلا لحظة ثم عادت إلى اكفهرارها. أما الشيخ تغلب فقال: وإلى الشيخ الدرمللي يرجع ما ورد في النشرة عن القطب الأول، جدك الإمام الأكرم.
فقال الشيخ محمود بحدة: ذاك الذي رام نسف الأكرم نسفا. - ليس في وسع إنسان أن ينسف مولانا الأكرم.
فقال الشيخ محمود برجاء: إذن فأنت تؤمن بكذب ما جاء عنه في النشرة؟! - كلا!
Shafi da ba'a sani ba
تلقى الطعنة في صميم قلبه وهتف: يا للفظاعة يا شيخ تغلب، ألم تعد تؤمن بأن الأكرم جاء مصر بين يدي سلسلة من الكرامات؟!
فلاذ الرجل بصمت قاس مغلق المنافذ حيال أية رحمة. - أتصدق أن القطب الأعظم جاء مصر هاربا عقب ارتكاب جريمة شنعاء؟!
لم يخرق العجوز عن صمته الرهيب القاتل. - وأن اسمه الذي عرف به ها هنا وهو الأكرم محور عما شهر به في الخارج وهو المجرم؟!
أصر العجوز على صمته فقال الشيخ محمود يائسا: وأنه جاء الحارة أشعث أغبر عاري الجسد لا يختلف شيئا عن الحيوان الأعجم؟!
وتبادلا نظرة طويلة وهو يلهث ثم سأله متحديا: أتصدق ذلك عن مولاك الأكرم؟!
عند ذاك تمتم الشيخ تغلب الصناديقي: ما أجمل الهدى بعد الضلال، ما أجمل الاستقرار بعد التشرد، ما أجمل الجلال بعد البهيمية، إنه مولاي الأكرم الذي بلغ بجده المراد وكفى!
صاح الشيخ محمود: كذب، افتراء، إلحاد، حسد، حقد، من أولئك الثلاثة خلفت ذرية الأبالسة التي تعيث في حارتنا فسادا. - مأساتك الحقيقية هي الكبرياء والغرور. - أبالسة من ذرية شياطين. - لم تحسن معاملتهم كما ينبغي لرجل من رجال الطريق.
فهتف مكورا قبضته في غضب: أنصاف مجانين يحلمون بإبادة الصالحين من البشر. - ماذا صنعت من أجلهم! - قدمت الحلم حيث كان يجب أن أقدم العصا! - ثم دسست من وشى بهم إلى السلطة! - لقد ترامت أصواتهم المزعجة إلى مراكز الأمن دون حاجة إلى وشاية! - لقد زاروني، حدثوني عن العلم الذي يؤمنون به فحدثتهم عن العلم الذي أؤمن به، تبادلنا الاحترام طيلة الوقت، قلت: إن العالم من رجال الله إلا إذا أراد أن يكون من رجال الشيطان، قالوا ليس من أهل الطريق من يلهج بالفسق والجشع، فقلت ولا من العلماء من يهب قدراته للدمار!
وراح الشيخ محمود يحادث نفسه: كذب، افتراء، حقد أسود. - قرب التفاهم بيننا حتى فرقت بيننا الشرطة!
فصاح الشيخ محمود بغضب: الويل، لن يبدد ظلمات الأكاذيب إلا الضربات الحاسمة. - العراك سلوك غير جدير بأهل الطريق! - إن صدق ما قاله أبو كبير والدرمللي فلا طريق هناك ولا طريقة. - بفضل اكتشافاتهم وضح الطريق.
Shafi da ba'a sani ba