مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد فهذه هي الطبعة الثانية لرسالة شيخ الإسلام ابن تيمية رجمه الله تعالى في "اللباس في الصلاة" يقوم بإعادة طبعها الأستاذ الفاضل الأخ زهير الشاويش الدائب على نشر الكتب النافعة التي ملؤها الثقافة الإسلامية الصافية وبخاصة منها كتب الحديث وتأليفات شيخي الإسلام ابن تيمية وابن قيم الجوزية ومن تخطى بخطاهما وسار بسيرهما مثل مجدد دعوة التوحيد في بلاد نجد وما حولها الشيخ محمد بن عبد الوهاب وغيره رحمه الله تعالى.
1 / 5
رسالة شيخ الإسلام هذه هي من رسائله العظيمة حقا فإنها على لطافة حجمها قد لا يجد الطالب الكثير منه في الموسوعات الفقهية وموضوعها في اللباس الواجب على كل من الرجل والمرأة في الصلاة فقد أهبت فيها بالأدلة القاطعة أن هذا اللباس ليس هو اللباس يستر به الرجل عورته خارج الصلاة فقط بل إنه يجب عليه شيء آخر وهو ستر المنكبين أيضا وهذا لحق الصلاة وحرمتها لا لأنها من العورة واستدل لذلك بقوله ﷺ: "لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقيه منه شيء"، وبأحاديث أخرى "ص ١٢ - ١٣". وهذه مسألة هامة طالما غفل عنها جماهير المصلين الذين يصلون في قميص "الشيال" الذي لا يستر المنكبين إلا خطا دقيقا منهما غافلين عن قول الله تعالى: ﴿خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ . وما أحسن ما ذكر المؤلف "ص ١٧" "إن ابن عمر ﵁ قال لغلامه نافع لما رآه يصلي حاسر الرأس: أرأيت لو خرجت إلى الناس كنت تخرج هكذا؟ قال: لا قال: فالله أحق من يتجمل له والجملة الأخيرة قد جاءت مرفوعة في بعض الطرق عن ابن عمر ولفظها في رواية للبيهقي "إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه فإن الله أحق من تزين له" ١ وسبب الغفلة المذكورة عن هذا الأدب الواجب في الصلاة يعود في رأيي إلى أمرين:
_________
١ انظر "صحيح أبي داود ٦٤٥"
1 / 6
الأول: ظن الكثيرين أن الواجب من اللباس في الصلاة إنما هو ما ستر العورة فقط. وهذا الحصر مع أنه مما لا دليل عليه مطلقا فهو مخالفة صريحة للنصوص المتقدمة ولا سيما الحديث الأول فإنه يدل على بطلان الصلاة إذا لم يكن على عاتقيه من ثوب شيء. وهو مذهب الحنابلة١ وهو الحق الذي لا ريب فيه.
والآخر: جمودهم على التقليد الأعمى فقد يقرؤون أو يسمعون بلك النصوص ولكنهم يتأثرون بها ولا يتخذونها لهم نذهبا لأن المذهب الذي نشأوا عليه يحول بينهم وبين الاهتداء بها ولذلك فالسنة في جانب وهم في جانب كما هو شأنهم في هذه المسألة إلا من عصم الله وقليل ما هم فجزى الله شيخ الإسلام خيرا الذي نهد لهم السبيل في هذه الرسالة المباركة ليتعرفوا على كثير من الحقائق التي غفلوا عنها ومنها هذه. ومن ذلك أنه إذ كان لا يجوز له أن يصلي مكشوف الفخذين سواء قيل: هما عورة أولا؟ "ص ١٦" وهذا من فقهه الدقيق رحمه الله تعالى.
هذا في لباس الرجل في الصلاة وأما المرأة فقد بين الشيخ ﵀ أنها وإن كان يجب عليها الجلباب إذا خرجت من بيتها
_________
١ انظر "منار السبيل ١/ ٧٤ - طبع المكتب الإسلامي" وحاشية الشيخ سليمان ﵀ على "المقنع
١/ ١١٦"
1 / 7
فإنه لا بجب عليها الجلباب إذا صلت في بيتها وإنما يجب عليها الخمار والقميص الذي يستر ظاهر القدمين فهي إذا سجدت قد يبدو باطن قدمها. كذلك يجوز لها أن تكشف عن وجهها وكفيها مع كونهما من العورة خارج الصلاة في اختياره. "انظر ص ١٣ – ١٥"١. وعلى العكس من ذلك فإن المرأة لو صلت وحدها كانت مأمورة بالاختمار بينما هي في غير الصلاة يجوز لها كشف رأسها في بيتها وعند ذوي محارمها وحينئذ فقد يستر المصلي في الصلاة ما يجوز ابتداؤه في غير الصلاة وقد يبدو في الصلاة ما يستره عن الرجال "ص ١٢ و١٣". وهذا أيضا من دقائق المسائل التي تولى شيخ الإسلام ﵀ شرحها وبيانها جزاه الله عن الإسلام خيرا.
ومن ذلك أنه مع تقريره أن الحجاب مختص بالحرائر دون
_________
١ واختار جمهور العلماء أبو حنيفة ومالك والشافعي وكذا أحمد في رواية ذكرها المصنف نفسه "ص ٢٤" أن وجهها وكفيها ليس بعورة وهو الذي نصرته في كتابي حجاب المرأة المسلمة واستدللت له بالكتاب والسنة والآثار عن نساء السلف بما قد لا يوجد عموما في كتاب آخر وليس معنى ذلك أنه لا يشرع سترها كلا بل ذلك هو الأفضل كما فصلته في فصل خاص عقدته في الكتاب المذكور تحت عنوان "مشروعية ستر الوجه" "ص ٤٧ - ٥٣" من الطبعة الثالثة فمن نسب إلى ممن حاول الرد علي في هذه المسألة فلم يفلح - أنني قلت أو قال كدت أقول: بوجوب كشف المرأة لوجهها فقد كذب وافترى كما يشهد بذلك الفضل المشار إليه آنفا.
1 / 8
الإماء وأن الأمة يظهر منها رأسها وشعرها "ص ٢٦" فإنه يعود ليناقش المسألة على ضوء بعض القواعد الإسلامية العامة التي منها "درء المفاسد قبل جلب المصالح" فلا يدع المسألة على إطلاقها المستلزم جواز بروز الأمة الحسناء أيضا بشعرها فيقول بعد توطئة مفيدة:
وكذلك الأمة إذا كان يخاف منها الفتنة كان عليها أن تحتجب "ص ٢٧". ثم يؤكد ذلك فيقول:
"فلو أراد الرجل أن يترك الإماء التركيات الحسان يمشين بين الناس في مثل هذه البلاد والأوقات كما كان أولئك الإماء يمشين كان هذا من باب الفساد".
أقول: وعلى هذا فمذهب ابن تيمية وسط بين الجمهور الذين لا يوجبون الخمار على الأمة مطلقا وبين ابن حزم غير الذين يوجبون ذلك عليها. مطلقا ومن الواضح أنه إنما ذهب ابن تيمية إلى ذلك توفيقا بين بعض الآثار التي تدل لمذهب الجمهور "انظر ص ٢٦، ٣٣" وبين القاعدة المشار إليها آنفا. وهذا المذهب وإن كان أقرب إلى الصواب من مذهب الجمهور الذي كنا استدللنا على رده في كتاب "حجاب المرأة المسلمة" "ص ٤٢ – ٤٦". فلا يزال في النفس منه شيء لأن تقدير الجمال المترتب عليه خوف الفساد أمر نسبي وكم من أمة سوداء تكون جميلة الأعضاء والتكوين بحيث يفتتن بها البيض ثم إنها قد لا تكون كذلك عند هؤلاء ولكنها جميلة عند بني جنسها من السود. فالأمر غير منضبط. والله أعلم.
1 / 9
ومن ذلك أنه رجح مذهب الشافعي وأحمد أن النظر إلى وجه الأجنبية من غير حاجة لا يجوز وإن كانت الشهوة منتفية لأنه يخاف ثورانها وقال "ص ٣٤":
ولهذا حرم الخلوة بالأجنبية لأنها مظنة الفتنة والأصل أن ما كان سببا للفتنة فإنه لا يجوز فإن الذريعة إلى الفساد يجب سدها إذا لم يعارضها مصلحة راجحة ولهذا كان النظر الذي قد يفضي إلى الفتنة محرما.
أقول: ولو أن العلماء قديما والكتاب حديثا راعوا هذا الأصل الذي ذكره: "ما كان سببا للفتنة فإنه لا يجوز" وجعله دليلا مرجح لتحريم النظر المذكور لما تورطوا في إصدار بعض الفتاوى التي لا يشك المتفقه في أصول الشريعة وفروعها أنها تؤدي إلى مفاسد ظاهرة كقول بعض الحنفية:
"يجوز للأجنبي النظر إلى شعر الأمة وذراعها وساقها وصدرها وثدييها١" وقول بعض المذاهب:
_________
١ انظر: "أحكام القرآن" لأبي بكر الجصاص الحنفي "٣ / ٣٩٠" وكتابي "حجاب المرأة" "ص ٤٤"
فإن فيه ردا على القول المذكور ومع ذلك لم ننج من أن يتهمنا بعض الحنفية أنفسهم بأني أبيح النظر إلى وجه المرأة وأخشى ما أخشاه أي يكون ذلك على قول المثل: رمتني بدائها وانسلت.
1 / 10
"يجوز النظر إلى المرأة الأجنبية وعورتها من المرآة"
وعلل ذلك بعضهم بأنه إنما ينظر إلى خيال وتبنى ذلك اليوم - مع الأسف - أحد الأحزاب الإسلامية الذي يأخذ من كل مذهب ما يناسب المصلحة بزعمه ولم يقف عند هذا فحسب بل إنه جعله كالنص المعصوم فرتب عليه ما هو أشد إفسادا من الأول لأنه أمس بحياة شبابنا اليوم وواقعهم وهو جواز النظر إلى الصور الخلاعية في التلفزيون والسينما والمجلات معللا ذلك بما تقدم أنه إنما ينظر إلى خيال وكل ذي عقل ولب حتى ولو كان غير مسلم يعلم يقينا أن هذه الصور من أشد الأنواع المثيرة لشهوة الشباب وغرائزهم بحيث أنهم لا يجدون بعد ذلك سبيلا إلى إطفائها إلا بارتكاب المحرم نصا ولو كان تحريمه من باب سد الذريعة كالنظر والسمع ونحوهما مما ذكره رسول الله ﷺ في قوله ".... وزنا العينين النظر وزنا اللسان النطق والنفس تمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه" أخرجه الشيخان وغيرهما١.
وليس هذا فقط فقد أصدر نشرة منذ عهد غير بعيد ذهب فيها إلى التصريح بجواز تقبيل المرأة الأجنبية عند السلام عليها
_________
١ وقد خرجته في "إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل للشيخ ابن ضويان "١٧٨٧".
1 / 11
ولكن بدون شهوة وقد قلنا وقال غيرنا لبعض أولئك الحزبيين: افترض أن يفعل ذلك بأختك وزوجتك فوجم!
ولهم من مثل هذه المسائل البعيدة عن الكتاب والسنة بل العقل السليم الشيء الكثير لا مجال الآن للتوسع فيه وإنما استطردنا إلى ما ذكرنا من شواذهم وانحرافهم عن العلم الصحيح لنقول:
يجب على هؤلاء وغيرهم ممن يهمهم أن يكونوا على معرفة بالعلم الصحيح المستنبط من الكتاب والسنة استنباطا قائما على العلم بالقواعد الأصولية وحسن تطبيق لها على الفروع أن يجعلوا دينهم - بعد دراسة الكتاب والسنة - مطالعة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية ومنها هذه الرسالة المباركة - وبذلك يتمرنون على الاستنباط الصحيح والتفريح الرجيح وينجون من الإتيان باجتهادات وآراء لا يقول بها أحد ممن يعقل ما ينطق به لسانه أو يجري به قلمه من مثل ما تقدم بيانه!
تلك هي بعض المسائل التي جاءت في طي هذه الرسالة القيمة وفيها مسائل وفوائد أخرى ستمر بالقارئ إن شاء الله تعالى وبمجموعها كانت الرسالة فريدة في بابها لا مثيل لها بين أترابها فإن غالبها ما تفردت به عن مثيلاتها ككتاب "الحجاب" للعلامة المودودي وكتابي "حجاب المرأة المسلمة" وغيرهما فليعض عليها بالنواجذ وليحمد الله تعالى أن جعله من قراء كتب ابن تيمية المستفيدين منها فإنه هو "العارف بالله" حقا ومن نحا نحوه.
1 / 12
ونحن إذ نشهد له بهذا لا ندعي له العصمة كيف وقد أبدينا بعض الملاحظات على مواطن معدودة قليلة من الرسالة مصداقا لقول الإمام مالك رحمه الله تعالى: ما منا من أحد إلا ورد عليه إلا النبي ﷺ وقد روي عن غيره أيضا١ وذلك مما لا يحط من قدره أو قدر رسالته بلا ريب بل إن ذلك ليرفع من قيمتها للقلة المشار إليها على حد قول الشاعر:
كفى المرء نبلا ... أن تعد معايبه
بل لا عيب عليه في ذلك مطلقا فإنه مجتهد مأجور إما أجرين وهو الأكثر بفضل الله أو أجرا واحدا.
هذا وقد كانت الرسالة طبعت سابقا تحت عنوان "حجاب المرأة ولباسها في الصلاة وغيرها" ولولا أن ثمة بعض الموانع منها اشتهارها بالاسم المذكور لرأيت أن نجعل عنوانها:
لباس الرجل والمرأة في الصلاة
لأنه هو الموضوع الذي اختصت به الرسالة ودندن المؤلف حوله وجاء بما يعز وجوده من الفوائد والفقه الصحيح.
وقد زدت في التعليق عليها بعض الفوائد العلمية والحديثية مما
_________
١ انظر: "صفة الصلاة" "ص ٢٨ - الطبعة السابعة".
1 / 13
كان فاتني في الطبعة السابقة وبذلك ازدادت الفائدة بهذه الطبعة على سابقتها فالحمد لله الذي يسر لنا ذلك ووفق الأستاذ الأخ أبو بكر زهير الشاويش لطبعها من جديد في هذا الثوب القشيب.
نسأل الله تعالى أن يجعل عملنا خالصا لوجهه وأن ينفع به المسلمين. وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.
دمشق في ٧ رمضان سنة ١٣٩٣
وكتبه: محمد ناصر الدين الألباني
1 / 14
فصل في "اللباس في الصلاة"
وقال شيخ الإسلام ﵀ فصل في "اللباس في الصلاة" وهو أخذ الزينة عند كل مسجد: الذي يسميه الفقهاء: "باب ستر العورة في الصلاة" فإن طائفة من الفقهاء ظنوا أن الذي يستر في الصلاة هو الذي يستر عن أعين الناظرين وهو العورة وأخذ ما يستر في الصلاة من قوله: ﴿وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾ ثم قال ﴿وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ﴾ يعني الباطنة ﴿إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ﴾ ١ الآية، فقالوا: يجوز لها في الصلاة أن تبدي الزينة الظاهرة دون الباطنة
والسلف قد تنازعوا في الزينة الظاهرة على قولين:
١ - فقال: ابن مسعود ومن وافقه هي الثياب
٢ - وقال ابن عباس ومن وافقه: هو ما في الوجه واليدين،
_________
١ سورة النور: الآية ٣١، وتمامها: ﴿أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾
1 / 15
مثل الكحل والخاتم. وعلى هذين القولين تنازع الفقهاء في النظر إلى المرأة الأجنبية.
فقيل: يجوز النظر لغير شهوة إلى وجهها ويديها وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وقول في مذهب أحمد.
وقيل: لا يجوز وهو ظاهر مذهب أحمد قال: كل شيء منها عورة حتى ظفرها وهو قول مالك.
وحقيقة الأمر: أن الله جعل الزينة زينتين: زينة ظاهرة وزينة غير ظاهرة وجوز لها إبداء زينتها الظاهرة لغير الزوج وذوي المحارم وأما الباطنة فلا تبديها إلا للزوج وذوي المحارم.
وكانوا قبل أن تنزل آية الحجاب كان النساء يخرجن بلا جلباب يرى الرجل وجهها ويديها وكان إذ ذاك يجوز لها أن تظهر الوجه والكفين وكان حينئذ يجوز النظر إليها لأنه يجوز لها إظهاره١.
_________
١ قلت: ظاهر هذا الكلام مع الذي بعده أن الآية نزلت في ستر الوجه واليدين خاصة وقد اغتر بذلك العلامة المودودي فقال في كتاب "الحجاب" "ص ٣٦٦" بعد أن ساق آية الأحزاب: نزلت خاصة في ستر الوجه!
وقد ذكرت ما يمكن أن يكون مستنده في ذلك وهو مستند ضعيف أيضا في كتابي "حجاب المرأة المسلمة" وبينت فيه أن إسناده ضعيف جدا فراجعه "ص ٤١"
1 / 16
ثم لما أنزل الله ﷿ آية الحجاب بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ﴾ ١ حجب النساء عن الرجال.
وكان ذلك لما تزوج النبي ﷺ زينب بنت جحش٢ فأرخى النبي ﷺ الستر ومنع أنسًا أن ينظر.
ولما اصطفى صفية بنت حيي بعد ذلك عام خيبر قالوا: إن حجبها٣ فهي من أمهات المؤمنين. وإلا فهي ملكت يمينه،
_________
١ الأحزاب: ٥٩
٢ قلت: هذا الكلام غير منسجم مع الذي قبله فإن الآية التي نزلت لما توزج النبي ﷺ بزينب بنت جحش ليست هي الآية المتقدمة وإنما هي قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ...﴾ [الآية ٥٤ – الأحزاب] .
فهذه الآية هي التي نزلت حين تزوج ﷺ بزينب كما صرحت بذلك الأحاديث الصحيحة عند البخاري ومسلم وغيرهما انظر "تفسير ابن كثير" و"الدر المنثور" وغيرهما وكتابي "حجاب المرأة المسلمة" "ص ٤٨" طبع المكتب الإسلامي فلعلها سقطت من قلم المؤلف أو الناسخ وهو الأقرب.
٣ أي وجهها كما في بعض الطرق. ففي الحديث أن النبي ﷺ كان يحجب نساءه الحرائر في وجوههن أيضا وهذا هو الأفضل كما فصل ذلك في =
1 / 17
فحجبها فلما١ أمر الله أن لا يسألن إلا من وراء حجاب وأمر أزواجه وبناته ونساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن.
و"الجلباب" هو الملاءة وهو الذي يسميه ابن مسعود وغيره: الرداء وتسميه العامة الإزار وهو الإزار الكبير الذي يغطي رأسها وسائر بدنها.
وقد حكى عبيدة وغيره: أنها تدنيه من فوق رأسها فلا تظهر إلا عينها ومن جنسه النقاب فكن النساء ينتقبن.
وفي الصحيح: "أن المحرمة لا تنتقب ولا تلبس القفازين".
فإذا كن مأمورات بالجلباب لئلا يعرفن٢ وهو ستر الوجه
_________
= "الحجاب" "ص ٥٠" بخلاف إمائه ﷺ فإن الحديث يدل على أنه كان لا يحجبهن في وجوههن وأما أن الحديث يدل على أن السنة في الإماء أن لا يسترن رؤوسهن ونحورهن بالجلباب أو الخمار على الأقل فلا كما بينته في الكتاب المذكور "ص ٤٤ – ٤٥". والحديث متفق عليه وترى تخريجه فيه "ص ٤٦"
١ كذا ولعل الصواب "فلذا".
٢ الآية تقول: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ﴾ وتقدير "لا " فيها خلاف الأصل ولا مبرر له فإن المعنى بدونها مستقيم قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: أي إذا فعلن ذلك عرفن أنهن حرائر لسن بإمام ولا عواهر ومحوه في "تفسير ابن جرير". وعليه فقوله "وهو ستر الوجه" مما لا وجه له وكذا ما بعده. نعم حديث "الصحيح" يدل على أن الانتقاب كان معروفا لكنه لا يدل على وجوبه ولا على أنه المقصود بالآية
1 / 18
أو ستر الوجه بالنقاب: كان حينئذ الوجه واليدان من الزينة التي أمرت ألا تظهرها للأجانب.
فما بقي يحل للأجانب النظر إلا الثياب الظاهرة فابن مسعود ذكر آخر الأمرين وابن عباس ذكر أول الأمرين١.
وعلى هذا فقوله: ﴿أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ﴾ ٢ يدل على أن لها أن تبدي الزينة الباطنة لمملوكها. وفيه قولان:
_________
١ كذا قال المؤلف رحمه الله تعالى وهو يعني أن ابن مسعود لما ذكر في تفسير الزينة الظاهرة أنها الثياب كما تقدم قريبا إنما ذكر ما استقر عليه الأمر وابن عباس لما ذكر في تفسيرها أنها الوجه واليدين ذكر ما كان عليه الأمر قبل ذلك وهذا بعيد فإن كلا من الصحابيين الجليلين قال ما قال في تفسير الآية المشار إليها ﴿وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ . وهي تعني قطعا الأمر الذي استقر أخيرا حكم الشرع عليه غاية ما في الأمر أنهما اختلفا في تفسير هذا الأمر ذاته فكيف يصح أن يقال: فابن مسعود ذكر آخر الأمرين وابن عباس أوله. ولذلك ذهب بعض السلف إلى الجمع بين قوليهما فقال ابن جرير في تفسيره "١٨ / ٩٤ " بعد أخرجه ساق القولين بأسانيده إليهما: وقال آخرون عني به الوجه والثياب ذكر من ذكر ذلك. ثم روى بإسنادين صحيحين له عن الحسن البصري أنه قال: ﴿إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ قال: "الوجه والثياب" ثم اختار هو أن المراد به الوجه والكفان وفيه نظر من حيث الأسلوب القرآني بينته في "الحجاب" وقد وافقته على اختياره من الناحية الفقهية فراجعه "ص ١٧ – ٢٤"
٢ سورة النور الآية: ٣١.
1 / 19
١ - قيل المراد الإماء والإماء الكتابيات كما قاله ابن المسيب ورجحه أحمد وغيره.
٢ - وقيل: هو المملوك الرجل: كما قاله ابن عباس وغيره وهذا مذهب الشافعي وغيره وهو الرواية الأخرى عن أحمد فهذا يقتضي جواز نظر العبد إلى مولاته.
وقد جاءت بذلك أحاديث١ وهذا لأجل الحاجة لأنها محتاجة إلى مخاطبة عبدها أكثر من حاجتها إلى رؤية الشاهد والعامل والخاطب.
فإذا جاز نظر أولئك فنظر العبد أولى وليس في هذا ما يوجب أن يكون محرما يسافر بها كغير أولي الإربة فإنهم يجوز لهم النظر وليسوا محارم يسافرون بها.
فليس كل من جاز له النظر جاز له السفر بها ولا الخلوة بها بل عبدها ينظر إليها للحاجة وإن كان لا يخلو بها ولا يسافر بها فإنه لم يدخل في قوله ﷺ: "لا تسافر المرأة إلا مع زوج أو ذي محرم" ٢ فإنه يجوز له أن يتزوجها إذا عتق كما يجوز لزوج أختها أن يتزوجها إذا طلق أختها
_________
١ قلت: ذكرت بعضها في التعقيب على كتاب الحجاب للعلامة المودودي وهو مطبوع في آخر كتابه المذكور.
٢ متفق عليه من حديث ابن عباس وغيره. وهو مخرج في "إرواء الغليل" "٩٩٥ " و"الصحيحة" "٢٤٢١"
1 / 20
والمحرم: من تحرم عليه على التأبيد ولهذا قال ابن عمر: سفر المرأة مع عبدها ضيعة١.
فالآية رخصت في إبداء الزينة لذوي المحارم وغيرهم وحديث السفر ليس فيه إلا ذوو المحارم وذكر في الآية ﴿أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ﴾ و﴿غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ﴾ ٢ وهي لا تسافر معهم.
وقوله: ﴿أَوْ نِسَائِهِنَّ﴾ قال: احتراز عن النساء المشركات فلا تكون المشركة قابلة للمسلمة ولا تدخل معهن الحمام٣.
لكن قد كن النسوة اليهوديات يدخلن على عائشة وغيرها فيرين وجهها ويديها بخلاف الرجال فيكون هذا في الزينة الظاهرة في حق النساء الذميات وليس للذميات أن يطلعن على
_________
١ قلت: وروي عن ابن عباس مرفوعا ولا يصح كما بينته في "سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة" "٣٧٠١"
٢ سورة النور: الآية: ٣١.
٣ قلت: وهذا التفسير ل "نسائهن " وأنهن النساء المسلمات دون الكافرات هو الصواب الذي لم يرو غيره عن السلف كما تراه في "الدر المنثور" و"تفسير ابن جرير" و"زاد المسير لابن الجوزي" "٦ / ٣٢ - طبع المكتب الإسلامي" و"ابن كثير". وأما تفسير بعض أفاضل المعاصرين بأنهن الصالحات الأخلاق من النساء سواء كن مسلمات أم كافرات فإنه تفسير محدث لمخالفته لتفسير السلف مع كونه غير متبادر من إضافته تعالى النساء إلى المسلمات من حيث الأسلوب العربي. فتأمل.
1 / 21
الزينة الباطنة ويكون الظهور والبطون بحسب ما يجوز لها إظهاره.
ولهذا كان أقاربها تبدي لهن الباطنة وللزوج خاصة ليست للأقارب.
وقوله: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾ دليل على أنها تغطي العنق فيكون من الباطن لا الظاهر ما فيه من القلادة وغيرها.
1 / 22
فصل في ستر النساء والرجال
فهذا ستر النساء عن الرجال وستر الرجال عن الرجال والنساء عن النساء في العورة الخاصة كما قال ﷺ: "لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة" ١ وكما قال: "احفظ عورتك إلا عن زوجتك أو ما ملكت يمينك".
قلت: فإذا كان القوم بعضهم في بعض؟.
قال: إن استطعت أن لا يرينها أحد فلا يرينها.
قلت: فإذا كان أحدنا خاليا؟ قال: "فالله أحق أن يستحيا منه" ٢
"ونهى أن يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد والمرأة إلى المرأة في ثوب واحد"٣ وقال عن الأولاد: " مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع" ٤
_________
١ أخرجه أحمد ومسلم وغيرهما وهو مخرج في "الإرواء" "١٨٠٨"
٢ حديث حسن أخرجه أحمد وغيره وهو مخرج في "آداب الزفاف" "ص ٣٦"
٣ متفق عليه
٤ صحيح أخرجه أبو داود وغيره من طريقين وهو مخرج في "صحيح أبي داود" "٥٠٨ و٥٠٩"
1 / 23
فهذا نهي عن النظر والمس لعورة النظير لما في ذلك من القبح والفحش وأما الرجال مع النساء فلأجل شهوة النكاح فهذان نوعان.
وفي الصلاة نوع ثالث فإن المرأة لو صلت وحدها كانت مأمورة بالاختمار١ وفي غير الصلاة يجوز لها كشف رأسها في بيتها فأخذ الزينة في الصلاة لحق الله فليس لأحد أن يطوف بالبيت عريانا٢ ولو كان وحده بالليل ولا يصلي عريانا ولو كان وحده فعلم أن أخذ الزينة في الصلاة لم يكن ليحتجب عن الناس فهذا نوع وهذا نوع.
وحينئذ فقد يستر المصلي في الصلاة ما يجوز إبداؤه في غير الصلاة وقد يبدي في الصلاة ما يستره عن الرجال.
فالأول: مثل المنكبين فإن النبي ﷺ نهى أن يصلي الرجل في
_________
١ قلت: وذلك لقوله ﷺ: "لا يقبل الله صلاة حائض" أي بالغة "إلا بخمار".
وهو حديث صحيح كما يأتي قريبا وهو بعمومه يشمل الإماء أيضا فتخصيص الحديث بالمرأة الحرة كما سيأتي من المؤلف في الصفحة التالية مما لا أعرف له دليلا. بل قد روي أن النبي ﷺ قال لمولاة لهم: "اختمري" وقد خرجته في "الحجاب" "ص ٤٥" فهذا يدل على أن الأمة كالحرة في وجوب الاختمار فهو يؤيد العموم المشار إليه
٢ يشير إلى الحديث الآتي ص ١٥.
1 / 24