وصوت إنسان فكدت أطير
وكان الخوف ينمو كلما اخترقت قلب الغابة فتثقل علي وطأة الرعب، والصوت يزداد قوة ويحمله الهواء على منكبيه طائفا به في أقطار الغابة الموحشة. ذعرت الضواري وتركت الطيور وكناتها وفر الذئب هاربا خوفا من ريحة الإنس. أما أنا فتقدمت مستقبلا ما يكون بصدري، فقد علمتني الحوادث ألا أدير ظهري لطاعن فأمكنه من مقاتلي.
وكان الصوت ينبعث من كهف ضفرت له يد الطبيعة إكليلا من العليق والعوسج. واهتديت إلى بابه فدخلته قائلا: إن التاريخ يعيد نفسه، وهذا نظير جريح أريحا فما ضرني لو كنت ذلك السامري. وما وقعت عيني على ذلك المتوجع حتى سمعته ينادي: ويلهم قتلوني.
تفرست بالصارخ فإذا هو فتاة غضة الشباب جميلة غطى شعرها الأسود الطويل وجهها البديع الناصع البياض. ناديتها فأعرضت عني مغطية وجهها بيديها الناعمتين وصاحت: إلى هذه البرية لا تزالون تقتفون أثري! دعوني أعيش في هذه الغابة كالنساك فقد سئمت أعمالكم يا بني البشر. لقد جرتم علي وسحقتم قلبي وحطمتم مجدي. اضطهدتموني واحتملت كل ما لحق بي من ظلمكم أيها القساة، فدعوني الآن أستريح في هذه البرية بنفس راضية إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا. ثم أعولت فملأ صراخها الفضاء فتفطر قلبي لوعة عليها، وسألتها: من أنت أيتها الفتاة؟! وأية جناية ارتكبت فأبعدت إلى هذه الغابة حيث لا يؤنسك غير نعيق البوم والغراب، وفحيح الأفاعي وخوار الضباع؟ أأنت تموتين وتودعين الوجود؟! ومن يرضى عن موت غادة مثلك؟ فقومي تنقلي بين الأزاهر فإنك لا تزالين زهرة ناضرة لم تنفتح العين على أجمل منها، وحدثيني عما نزل بك من مصائب الدهر فلعل لدائك عندي دواء.
فأجابت: قضي الأمر ولم يعد لي من الحياة نصيب، فأنصاري قد ماتوا، وأنى توجهت لا أرى إلا وجوها كالحة وجباها مقطبة وحناجر مفتحة كالقبور وسم الأفاعي تحت الشفاه. ينظرن إلي نظرة القضاة إلى لص مجرم ولا يريدون غير رجمي، ولهذا تركت معترك المدن حيث تتطاحن البشر وجئت إلى هذه الغابة أنشد السلامة والاطمئنان. هجرت الهيئة الاجتماعية وطويت عنها كشحا.
فقلت لها: ضاق صدري ولم يبق في قوس الصبر منزع فهل أنت ساردة لي تاريخ حياتك؟! يظهر أنك غريبة الأطوار وأسرارك عميقة!
فأجابت بطرف منكسر: أنا هي العذراء التي افتخر بها الإنسان القديم، وتغزل بها كبار النفوس وتعشقها الفلاسفة والمطلعون على أسرار البشرية. أنا هي المحور الذي تدور عليه رحى الحياة، والشمس التي تلقي أنوارها على المجتمع الإنساني فتنعش ما ذبل من رياضه، وتبدد ظلمات لياليه الحالكة. أنا هي الروح لجسم المدنية الحاضرة، وما نفع الجسم إذا فارقته الروح!
أنا هي نعيم هذه الحياة. فمن لجأ إلي أمن الويل والنوازل، ومن أعرض عني عاش معذبا في جهنم الضمير، فالويل للذين جاروا علي وتركوني، فعاقبة حياتهم وخيمة وأيامهم سوداء مظلمة. أنا هي عروس الشعراء، بل عروس كل ذي نفس تشعر، فكم من رجل أراد الصعود إلى سماء المجد، ولكن كرهه لي أدى إلى هبوطه من أعلى إلى أسفل! وكم من فتى أحب أن يسود بدوني فلم يوفق!
فصحت بها: يا أختاه! دعي قول أنا وأنا. فما قلته تغني عنه كلمة، فقوليها بالله عليك.
فنظرت إلي شزرا وقالت: أنا هي (الأمانة) والويل للبشر إذا فقدوني. فالقائد إن لم يكن حائزا على جانب عظيم من الأمانة يخون دولته، ويقوض دعائم مجدها، والخادم إذا لم يكن صادقا مخلصا يدس لسيده السم فيميته شر ميتة، والصديق إذا لم يكن أمينا كان ويلا ويوقع من اصطفاه في شراك البلايا، والتاجر إذا لم يكن صادقا أمينا يبيع ذمته وينهب أموال البشر ولا يبالي إلا بجمع الثروة سواء أعن طريق الشهامة كانت أو عن طريق اللؤم والدناءة. وقصارى الكلام أن كل ذي شأن في الهيئة الاجتماعية إذا لم يكن صادقا فهو مكروه وممقوت من البشر.
Shafi da ba'a sani ba