مرت لحظات ثم أمرنا بالاستدارة، واستدرنا أربعتنا، فرأيت ذلك الرجل يقف قبالتنا ويداه معقودتان خلف ظهره، كانت إضاءة المصباح الكهربائي الذي ينير الحوش تأتي من خلفه، وتغرق وجهه في الظلام، فلم تكن ملامحه واضحة جدا.
طيلة فترة إقامتي في المعتقل لم أعرف اسمه الحقيقي، فقد كان الجلادون دوما ينادونه باسم «سعادتك» فقط.
قال بصوت جهوري: «انتو العاملين شغب، وبتطلعوا الشوارع وتحرقوا في الطرمبات، وتطالبوا بإسقاط الحكومة؟! قايلنها فوضى.»
قدرت أنه يمثل دورا قياديا في المكان، فقد وقف الجلادون جواره في شيء من الاحترام، وبطريقة عسكرية متصلبة نوعا ما، قدرت أنه الرتبة الأكبر كذلك.
فيما بعد عرفت أنه ضابط برتبة كبيرة في الأمن، وهو المسئول عن مجموعة من «بيوت الأشباح» في الخرطوم، ويشرف شخصيا على تعذيب الناشطين والمعارضين الذين يتم اعتقالهم، في حالة وجود معلومات حساسة عند المعتقل، لذلك يقومون باستخراجها تحت وطأة التعذيب، بأسرع طريقة، بعيدا عن الأساليب القانونية التي تتطلب وقتا، بالإضافة أنها تكون تحت الرادار، وبعيدا عن نظر المنظمات الحقوقية، والمؤسسات المدافعة عن حقوق الإنسان.
تقدم «سعادتك» نحونا بخطوات هادئة، ويداه لا تزالان معقودتان خلف ظهره، كأنه قائد عسكري يتفقد صف جنوده، ومر أمامنا وهو يحملق في وجوهنا عن قرب، كانت له لحية بيضاء قصيرة، وكرش منتفخ قليلا، ويحمل مسبحة في يديه المنعقدتين خلف ظهره، وشفتاه تتمتمان بالتسبيح بصوت خافت، ثم توقف أمام «عمار» للحظات، وهو يتفرس في ملامحه، ثم سأله بصوت هادئ ولهجة ساخرة قليلا: «عارف بنعمل في الخونة والمأجورين البحاولوا يزعزعوا الأمن شنو؟»
كان «عمار» منهكا، وشعرت أنه يبذل جهدا للاحتفاظ برباطة جأشه وهدوء ملامحه. كنت أعرفه جيدا، وعرفت أنه يفعل ما في وسعه حتى لا يظهر لهم انهزامه أو خوفه أو حتى تأثره بما حصل، ويبدو أن هذا ما جعل هذا ال «سعادتك» يتوقف أمامه دونا عن الباقين.
ولمعت في عقلي ذكرى ذات يوم، ونحن في نشاط الكلية نرتشف القهوة، قال لي: «لا تستهن أبدا بقوة المسجون الأعزل في مواجهة سلاح السجان، أنت لست ضعيفا كما تعتقد، فالإيمان بالحق قوة هادرة تكتسح كل ما أمامها، فقط إن أنت آمنت بقضيتك، ولرب صرخة ثائر أعزل يواجه أسلحة الظلم بصدر مفتوح، ترتجف لها أفئدة من باتوا في قصورهم مدججين بالسلاح، ولا مناص.
فلا تخيفنك المشقة. ليس صاحب القضية كالمأجور للدفاع عمن سلب قضيته. هي معادلة الحق والباطل الأزلية، كما طرحتها فلسفة «جان جاك روسو» أن القوة لا تؤسس الحق، بينما يؤسس الحق للقوة وإن لم تكن مادية، وكما عبر عنها النص القرآني
ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون .
Shafi da ba'a sani ba