للترجمة في كتاب ضخم، أظهر فيه تمكنه من اللغات القديمة وإحكامه «للصنعة» إحكاما لم يسبق له مثيل، ولكن الفتنة كانت قد بدأت، ورأى الملك في عام 1530م، أن يخمدها بمنع تداول الكتاب، وأصدر وولزي مرسوما يمنع حيازة المؤلفات (بما فيها المترجمات) غير المعتمدة من الكنيسة (والمقصود بها طبعا الكنيسة الكاثوليكية التي يرأسها البابا).
ويذهب كولتون
Coulton
في كتابه عن الحياة في القرون الوسطى إلى أن معارضة ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغات الحية في أوروبا كان وراءها حرص الكهان على الاحتفاظ لأنفسهم بحق تفسير النصوص اللاتينية على نحو ما يناسب أهواءهم، والواقع أن مفهوم العلم والمدرسة في العصور الوسطى كان قائما على هذا الأساس، فكان طلب العلم هو طلب الإحاطة باللاتينية، وكانت المدارس التي كان يطلق عليها
Grammar Schools
هي مدارس تعليم الكتابة باللاتينية، وكانت تقتصر إلى حد كبير على الذين يعتزمون الدخول في سلك الكهنوت، خصوصا من أبناء القادرين أو من «أبناء إخوة» الكهان (أي الأبناء الذين أتوا بهم سفاحا كما سبق أن أشرنا) فاللاتينية هي لغة العلم، والعلم هو العلم بالكتاب المقدس وشروحه وتاريخ القديسين والأولياء والصالحين من مفسرين ورهبان، وهي أيضا لغة إيطاليا الكاثوليكية والتي كانت تتحول تدريجيا إلى الإيطالية الحديثة؛ ومن ثم فإن الاعتصام بالكتاب المقدس المكتوب باللاتينية يكفل عزل الكهنوت عن الشعب، ويجعل الكاهن صاحب الحق الأوحد في «هداية» العامة وتوجيه خطاهم.
وبعث وولزي إلى رجال الكنيسة في كل مكان يطلب موافاته بالمترجم «الزنديق» الذي كان يمضي قدما في ترجمة العهد القديم (1530م) وعملاء وولزي له بالمرصاد، وما لبث أن بث إمبراطور إسبانيا عيونه لمعرفة مكانه، ثم ألقي القبض عليه في أنتويرب
Antwerp ، وسجن نحو عام ونصف عام في سجن بالقرب من بروكسل، ثم أعدم حرقا عام 1536م، على الرغم من تشفع توماس كرومويل وزير هنري الثامن له. ومن المفارقات أن النسخة الإنجليزية التي وضعها أصبحت أساس النسخة الحالية المعروفة باسم نسخة الملك جيمس من الكتاب المقدس، وهذا كله ما أغفله شيكسبير بسبب اعتماده على تاريخ إنجلترا الذي كتبه هولنشد فقط. ويجمل بنا أن نقرأ ما كتبه تريفيليان عن نهاية العصور الوسطى التي آذن ذلك بها: «في العقد الذي قام فيه ليلاند برحلاته في إنجلترا (1534-1543م)، وسجل ملاحظاته عما شاهد وسمع، قام الملك هنري الثامن باستخدام البرلمان في إحداث الثورة التي أطاحت بالكهنوت، والتي نستطيع أن نعتبرها، دون غيرها، أعظم شاهد على انتهاء المجتمع القروسطي في إنجلترا؛ فإن قيام كنيسة وطنية تتمتع بالاستقلال وترفض سلطة البابا أتاح إمكان إخضاع الكهنوت للسلطة العلمانية، وتقسيم الأملاك الشاسعة والنفوذ الاجتماعي للأديرة على أفراد الشعب. وكانت هذه الأحداث مجتمعة تمثل ثورة اجتماعية. وقد صاحب تلك الثورة قدر محدود من التغييرات الدينية التي سمح بها الملك هنري الثامن الذي يرى المؤرخون أنه ممن تشربوا الروح الحديثة التي تدعو إلى نشر الكتاب المقدس بالإنجليزية بين جميع طبقات الشعب، وإلى القضاء على الأشكال الساذجة للتدين من تقديس لتماثيل الأولياء ومخلفات القديسين، وإلى إنشاء معاهدة علمية تنتمي حقا لروح عصر النهضة في أكسفورد وكيمبريدج بدلا من الفلسفة الاسكولاتية الكنسية والفقه الديني القديم، وكانت هذه الروح الحديثة تعتبر في نظر هنري الثامن ضربا من الإصلاحات الكاثوليكية القويمة التي يأمر بها الدين الصحيح. ولم يتوقف في غضون تلك الإصلاحات عن كراهيته للبروتستانت واضطهادهم، ولو لم يكن ذاك موقفه فربما فقد عرشه في ظل المناخ الفكري السائد آنذاك. ومع ذلك فإنه قد ساهم بهذه الإصلاحات في إيجاد نظام اجتماعي وكنسي جديد، كان من المحال الإبقاء عليه في السنوات اللاحقة وما أتت به من مظاهر التحول دون إقامته على أساس بروتستانتي صريح.
كانت حركة الإصلاح في إنجلترا حركة سياسية ودينية واجتماعية في الوقت نفسه، وكانت مظاهرها الثلاثة ترتبط ارتباطا شديدا بعضها بالبعض ... فالعداء للكهنوت كان ظاهرة اجتماعية تتفق مع شتى أشكال النظر إلى الدين والعقيدة. وكان العداء للكهنوت هو النغمة الأساسية للحركة الفكرية التي أحس بها المثقفون والعامة جميعا، وهي التي مكنت الملك من الانفصال عن البابوية وتأميم الأديرة وحل الأوقاف، في وقت كان عدد البروتستانت الإنجليز ما يزال يمثل أقلية ضئيلة تعاني من الاضطهاد.
كان هنري الثامن قد تلقى تعليمه على ضوء المناهج المعادية للكهنوت التي وضعها إرازموس وأصدقاؤه في أكسفورد، وهم رجال يتمتعون بإخلاص ديني صادق وينتمون للمذهب السلفي القويم، وإن كان قد أثارهم وأغضبهم ما كان صغار الكهنة وحقراؤهم يلجئون إليه من تحايل لابتزاز النقود من الجهلة والمؤمنين بالخرافات. وكان إرازموس وصحبه يناصبون طوائف الرهبان وقسس الطوائف (وتسمى طوائف الإخوان الشحاذين الأربع)
Shafi da ba'a sani ba