Hegel Gabatarwa Mai Gajarta
هيجل: مقدمة قصيرة جدا
Nau'ikan
كما أننا رأينا كيف يعتبر هيجل التفكير العقلاني كونيا بالفطرة. وإذا كان التفكير العقلاني هو الأداة الأساسية للعقل، فالعقل كوني بالفطرة. إن عقول البشر الخاصة كأفراد مرتبطة بعضها ببعض؛ لأن لديها تفكيرا عقلانيا كونيا مشتركا. وكان هيجل يصيغ هذه الفكرة على نحو أقوى، قائلا إن عقول البشر الخاصة كأفراد هي أوجه لشيء ما كوني بالفطرة؛ ألا وهو العقل ذاته. إن العقبة الأكبر التي تعوق التنظيم العقلاني للعالم هي ببساطة أن البشر لا يدركون أن عقولهم هي جزء من هذا العقل الكوني. يتقدم العقل نحو الحرية عن طريق إزالة هذه العقبة من طريقه. تذكر في بداية كتاب «فينومينولوجيا العقل» كيف كان الوعي محدودا بمعرفة الشيء المحدد الخالص «هذا»، وأجبر على قبول المصطلحات الكونية الضمنية في اللغة. انطلاقا من هذه النقطة، كانت كل خطوة هي خطوة عبر طريق ملتو يؤدي إلى عقل أقرب إلى تصور ذاته كشيء عقلاني وكوني في الوقت ذاته. هذا هو الطريق نحو الحرية؛ لأن العقول البشرية المفردة لا يمكنها أن تجد الحرية في الاختيار العقلاني عندما تكون منغلقة داخل تصورات لذاتها لا تقر بقوة التفكير العقلاني أو طبيعته الكونية الفطرية.
ما إن نعي ذلك، فلن يكون من الصعب رؤية العلاقة بين الحرية والمعرفة. كل ما نحتاج إلى قوله هو أنه كي يكون البشر أحرارا يجب أن يكونوا على دراية كاملة بطبيعة عقولهم العقلانية، والتي هي بدورها طبيعة كونية. هذا الوعي الذاتي هو المعرفة المطلقة. كذلك كتب هيجل في «فلسفة التاريخ»:
كون أن العقل عند المصريين قد تمثل لوعيهم في شكل «مشكلة» هو أمر جلي في النقش الشهير في معبد الإلهة نيث: «أنا ما هو كائن، وما قد كان، وما سوف يكون؛ لم يمط عني اللثام أحد» ... عند نيث المصرية، الحقيقة لا تزال مشكلة. والإله أبولو هو حلها؛ فهو يقول: «أيها الإنسان، اعرف نفسك.» لا يقصد بهذا القول معرفة الذات للجوانب الجزئية لضعفها وأخطائها: فالمقصود ليس هو الإنسان الجزئي الذي ينبغي أن يعرف خصائصه، وإنما المقصود هو الإنسان بصفة عامة، والذي ينبغي عليه أن يعرف نفسه.
إن البشرية بصورة عامة - كما كان من الممكن أن يضيف هيجل - مدعوة في الوقت ذاته إلى الحرية.
المعرفة المطلقة
لقد رأينا أن غاية كتاب «فينومينولوجيا العقل» هي المعرفة المطلقة، وأنها مرتبطة بغاية التاريخ؛ وهي الوعي بالحرية. فمعرفة الذات هي شكل من أشكال المعرفة، وأيضا هي أساس مفهوم هيجل عن الحرية. لماذا - على الرغم من ذلك - يصف هيجل معرفة الذات بمصطلح «المعرفة المطلقة»؟ ألا ينبغي أن نقول إن معرفة الذات هي جزء من المعرفة، لكنها بالتأكيد ليست المعرفة كلها؟ فعلم النفس في نهاية الأمر ما هو إلا أحد العلوم المتعددة، وحتى إذا أضفنا إليه علم الأنثروبولوجيا وعلم الأحياء والتاريخ ونظرية التطور وعلم الاجتماع وجميع العلوم الأخرى التي يمكن أن تسهم في معرفتنا بأنفسنا، فسيكون هناك العديد من مجالات المعرفة خارج هذه الفئة بالكامل أو في أفضل الأحوال ستكون على صلة بعيدة للغاية بها: علم الجيولوجيا، وعلم الفيزياء، وعلم الفلك، وغيرها. أليست هذه العلوم أيضا جزءا من المعرفة المطلقة؟
هناك فكرتان خاطئتان في هذا الاعتراض، إحداهما يسهل توضيحها، وهي أن هيجل لا يقصد بمصطلح «المعرفة المطلقة» معرفة كل شيء؛ فالمعرفة المطلقة هي معرفة العالم في حقيقته، مقارنة بمعرفة المظاهر فقط. لاكتساب المعرفة المطلقة لا يتعين علينا معرفة جميع الحقائق التي من الممكن معرفتها؛ فوظيفة العلماء هي معرفة المزيد والمزيد عن الكون. وكان هدف هيجل هو الهدف الفلسفي الذي يكمن في إثبات مدى إمكانية أن تكون المعرفة حقيقية، ولم يكن هدفه هو هدف العلماء الذين يسعون إلى زيادة المعرفة التي لدينا.
أما الفكرة الخاطئة الثانية، فيمكن الرد عليها فقط عن طريق توضيح موقف هيجل من طبيعة الواقع المطلق. فهيجل كان يصف نفسه بمصطلح «المثالي المطلق». و«المثالية» في الفلسفة لا تعني المعنى الدارج لها في اللغة العادية؛ فلا علاقة لها بتبني مثل عليا أو السعي إلى الكمال الأخلاقي. فالمصطلح الفلسفي كان ينبغي حقا أن يكون «الفكرية» لا «المثالية»؛ فمعناه أن الأفكار - أو على نحو أوسع: عقولنا وأفكارنا ووعينا - هي التي تشكل الواقع المطلق. أما وجهة النظر المناقضة، فتتمثل في المذهب المادي الذي يؤكد أن الواقع المطلق هو شيء مادي، وليس عقليا (يؤمن أنصار مذهب الثنائية بأن كلا من العقل والمادة يشكل الواقع).
يؤمن هيجل إذن بأن الواقع المطلق هو العقل، لا المادة، كذلك يؤمن بأن كتاب «فينومينولوجيا العقل» هو الذي قاده إلى هذا الاستنتاج. فبداية من مرحلة اليقين الحسي، فشلت كل محاولات اكتساب المعرفة بشأن واقع موضوعي مستقل عن العقل. وثبت خلو المعلومات الأولية التي نتلقاها عبر الحواس من أي معنى إلى أن نضعها في نظام مفاهيمي ينتجه الوعي. كان على الوعي أن يشكل العالم على نحو عقلاني، وأن يرتبه ويصنفه، قبل أن تكون المعرفة ممكنة. واتضح أن ما يطلق عليه «الأشياء المادية» ليست أشياء توجد بصورة مستقلة تماما عن الوعي، لكنها مفاهيم متعلقة بالوعي، بما في ذلك مفاهيم مثل «التملك» و«المادة». وعلى مستوى الوعي الذاتي، أصبح الوعي على دراية بقوانين العلوم بوصفها قوانينه الخاصة؛ وعليه وللمرة الأولى وجد العقل نفسه موضع الاستقصاء من جانبه. وفي هذه المرحلة أيضا بدأ الوعي في تشكيل العالم على نحو عملي وعقلاني عن طريق تقبل الأشياء المادية والتأثير فيها، وتصميمها وفقا لتصوراته الشخصية لما ينبغي أن تكون عليه. ثم بدأ الوعي في تشكيل عالمه الاجتماعي أيضا، وهي عملية تصل في ذروتها إلى اكتشاف أن العقل مسيطر على كل شيء. بعبارة أخرى: على الرغم من أن هدفنا في البداية كان فقط تتبع مسار العقل وهو في طريقه لمعرفة الواقع، فسنكتشف في نهاية الطريق أننا كنا نشاهد العقل وهو يشكل الواقع.
وفقا لهذا المفهوم عن الواقع بوصفه من صنع العقل وحده، يمكن لهيجل أن يفي بالوعد الذي قطعه على نفسه في مقدمة كتاب «فينومينولوجيا العقل» بأن يثبت أن بإمكاننا الوصول إلى معرفة حقيقية بالواقع. تذكر كيف صب جام سخريته على كل الرؤى التي ترى أن المعرفة أداة لإدراك الواقع، أو وسيلة نشاهد من خلالها الواقع؛ فقد قال إن جميع هذه الرؤى تفصل المعرفة عن الواقع. كان كانط، بمفهومه «الشيء في ذاته» الخاص بالواقع بوصفه شيئا يتخطى دائما حدود معرفتنا، أحد الذين أصابتهم سهام هذا النقد. وفي المقابل، قطع هيجل على نفسه وعدا بأن كتاب «فينومينولوجيا العقل» سيصل إلى مرحلة «لا تعد المعرفة عندها مجبرة على التطور إلى أبعد من نفسها»، ولن يعد الواقع عندها «شيئا أبعد» يتخطى حدود المعرفة، بل سيعرف الوعي الواقع مباشرة ويتحد معه. الآن يمكننا فهم ما كان يعني بكل ذلك: يتم التوصل للمعرفة المطلقة عندما يدرك العقل أن «ما يسعى لمعرفته هو ذاته.»
Shafi da ba'a sani ba