وحتى عندما دخلت الفندق، لا بد أنها تساءلت عمن يمكن أن يكون قد لمحها، وتضرعت للرب بألا تصل الرسالة إلى المدير، الذي كان يعرف زوجها، لكن الموظفة الجديدة، التي كانت سيدة شابة، كانت غريبة بعض الشيء عن البلدة، وربما حتى لا تعرف أنها زوجة الطبيب.
وربما تكون قد ألمحت للعازفين أنها لا تتوقع أن يمكثوا إلا لفترة قليلة؛ حيث إن الحفلات الموسيقية متعبة للغاية، ويكون على العازفين فيها أن يشقوا طريقهم إلى بلدة أخرى مبكرا في صباح اليوم التالي.
لكن لماذا تحملت تلك المخاطرة؟ لماذا لم تستقبل الجارين فقط وترحب بهما بنفسها؟ من الصعب التكهن بذلك. ربما شعرت بأن ليس بمقدورها إدارة الحوار بمفردها؛ ربما أرادت أن تظهر لمحة من الصداقة أو القبول لأخت زوجها، التي لم تلتق بها مطلقا من قبل على حد علمي.
لا بد أنها كانت تشعر بالارتباك بسبب تآمرها ذلك، فضلا عن قلقها الشديد وتضرعها بأن يسير كل شيء كما تريده، وأن يحالفها الحظ خلال الأيام السابقة على اللقاء، عندما كانت هناك خطورة بأن يكتشف العم جاسبر الأمر عن طريق الصدفة؛ فقد يلتقي بمعلمة الموسيقى، على سبيل المثال، في الشارع، وتشرع في التعبير له بحماس عن شكرها وترقبها للقاء. •••
لم يكن العازفون يشعرون بإرهاق شديد بعد انتهاء الحفلة الموسيقية، كما قد يعتقد المرء، ولم تثبط همتهم بسبب صغر عدد الجمهور في مسرح مبنى البلدية، وهو الأمر الذي ربما لم يمثل مفاجأة؛ فحماس الجارين، والدفء الذي كان يشع من غرفة المعيشة (حيث كان مبنى البلدية شديد البرودة)، وكذلك توهج الستائر القطيفة ذات اللون الأحمر الفاتح، التي كانت تبدو ذات لون كستنائي باهت أثناء النهار لكنها كانت باعثة على البهجة بعد أن يحل الظلام؛ كل تلك الأشياء كانت كفيلة برفع معنوياتهم؛ فالوحشة التي لمسوها بالخارج كانت تتناقض مع ما شعروا به في الداخل، وقد أدت القهوة التي قدمت إلى أن يسري الدفء في أوصال أولئك الغرباء الذين أعياهم الطقس السيئ، فضلا عن خمر الشيري الذي أعقب القهوة؛ فقد قدم خمر الشيري أو البورت في كئوس من الكريستال ذات أحجام وأشكال ملائمة، بجانب قطع الكعك الصغيرة المزينة بشرائح جوز الهند، والبسكويت الناعم الذي على شكل معين أو هلال، وبسكويت ويفر الشوكولاتة. إنني لم أر مثل هذه الأشكال من قبل؛ فأبواي كانا يقيمان حفلات يتناول فيها الضيوف الفلفل الحار في أواني من الفخار.
ارتدت الخالة دون ثوبا ذا تصميم بسيط مصنوع من قماش الكريب باللون القرنفلي المائل للون الأصفر، وكان من ذلك النوع من الثياب الذي يمكن أن ترتديه امرأة أكبر سنا منها ويجعلها وقورة في ثوب لا يخلو من زينة، لكن خالتي كانت تبدو وكأنها تشارك في احتفال فاضح بعض الشيء. وكانت جارتها متأنقة هي الأخرى، وربما بصورة أكثر مما تتطلبها المناسبة. أما الرجل القصير الممتلئ الذي كان يعزف على آلة التشيلو، فقد ارتدى بذلة سوداء، ورابطة عنق فراشية الشكل أنقذته من أن يظهر بمظهر متعهد دفن الموتى، وارتدت عازفة البيانو، التي كانت زوجته، ثوبا أسود اللون به الكثير من الكشكشة التي لا تلائم قوامها العريض. لكن مونا كاسل كانت مشرقة كالقمر بفستانها الانسيابي ذي الحلى الفضية؛ كانت ذات قوام ضخم، وأنف كبير كأنف أخيها.
لا بد أن الخالة دون قد أعدت البيانو، وإلا لما التفوا حوله هكذا. (وإذا ما بدا أن وجود البيانو في المنزل شيء غريب، مع الوضع في الاعتبار آراء عمي عن الموسيقى التي سرعان ما سيكشف عنها، فلا يسعني إلا أن أقول إن كل المنازل التي من نفس طراز منزل خالتي، وتنتمي لنفس الفترة التي كان موجودا فيها؛ كان يجب أن تضم واحدا.)
طلبت جارتنا أن تستمع إلى مقطوعة «موسيقى الليل الصغيرة» لموتسارت، وقد أيدتها في طلبها كنوع من التباهي؛ والواقع أنني لم أكن أعرف شيئا عن المقطوعة الموسيقية سوى عنوانها فقط، وذلك من خلال دراستي للغة الألمانية في مدرستي القديمة بالمدينة.
ثم طلب الزوج أن يستمع لمقطوعة ما، وبالفعل عزفه العازفون، وعندما انتهوا طلب الصفح من الخالة دون بسبب وقاحته لأنه أسرع بطلب عزف مقطوعته المفضلة قبل أن يتسنى للمضيفة أن تطلب اللحن الذي تفضل سماعه.
قالت الخالة دون إن عليه ألا ينزعج بشأنها، فإنه يروق لها سماع كل شيء، ثم غرقت في موجة من الخجل الشديد. ولا أدري إذا ما كانت تهتم بالموسيقى على الإطلاق، لكن بدا الأمر بالقطع كما لو أنها تشعر بالإثارة بشأن شيء ما؛ ربما لأنها مسئولة شخصيا عن هذا اللحظات، عن تلك البهجة المنتشرة في المكان.
Shafi da ba'a sani ba