88

حيي خجول يغشى المجلس فيتعثر في مشيته، ويضطرب في حركته. ويصادف أول مقعد فيرمي بنفسه فيه، ويجلس وقد لف الحياء رأسه، وغض الخجل طرفه، وتقدم له القهوة فترتعش يده وترتجف أعصابه، وقد يداري ذلك فيتظاهر أن ليس له فيها رغبة ولا به إليها حاجة، وقد يشعل لفافته فيحمله خجله أن ينفضها كل حين، وهي لا تحترق بهذا القدر كل حين. وقد يهرب من هذا كله فيتحدث إلى جليسه لينسى نفسه وخجله، ولكن سرعان ما تعاوده الفكرة فيعاوده الهرب، حتى يحين موعد الانصراف فيخرج كما دخل، ويتنفس الصعداء بعد أن أدركه الإعياء.

من أجل هذا أكره شيء عنده أن يشترك في عزاء أو هناء أو يدعى إلى وليمة أو يدعو إليها إلا أن يكون مع الخاصة من أصدقائه.. يحب العزلة لا كرها للناس ولكن هروبا بنفسه.

ثم هو مع هذا جريء إلى الوقاحة، يخطب فلا يهاب، ويتكلم في مسألة علمية فلا ينضب ماؤه ولا يندى جبينه، ويعرض عليه الأمر في جمع حافل فيدلي برأيه في غير هيبة ولا وجل، وقد تبلغ به الجراءة أن يجرح حسهم، وينال من شعورهم، ويرسل نفسه على سجيتها فلا يتحفظ ولا يتحرز.

يحكم من يراه في حالته الأولى أنه أشد حياء من مخدرة، ومن يراه في الثانية أنه أجرأ من أسد وأصلب من صخر، ومن يراه فيهما أنه شجاع القلب، جبان الوجه.

وهو طموح قنوع، نابه خامل، تنزع نفسه إلى أسنى المراتب فيوفر على ذلك همه، ويجمع له نفسه، ويتحمل فيه أشق العناء وأكبر البلاء، وبينما هو في جده وكده وحزمه وعزمه إذ طاف به طائف من التصوف، فاحتقر الدنيا وشئونها، والنعيم والبؤس، والشقاء والهناء ، فهزئ به وسخر منه واستوطأ مهاد الخمول، ورضي من زمانه بما قسم له؛ وبينما يأمل أن يكون أشهر من قمر ومن نار على علم، إذا به يخجل يوم ينشر اسمه في صحيفة، ويذوب حين يشار إليه في حفل، ويردد مع الصوفية قولهم «ادفن وجودك في أرض الخمول فما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه».

يعجب من يعرفه، إذ يراه معرفة نكرة، محبا للشهرة والخمول معا.

وأغرب ما فيه أنه متكبر يتجاوز قدره ويعدو طوره، ومتواضع ينخفض جناحه وتتضاءل نفسه، يتكبر حيث يصغر الكبراء، ويتصاغر حيث يكبر الصغراء. يتيه على العظماء ويجلس إلى الفقراء يؤاكلهم ويستذل لهم، لا تلين قناته لكبير، ويخزم أنفه للصغير.

يحب الناس جملة ويكرههم جملة، يدعوه الحب أن يندمج فيهم ويدعوه الكره أن يفر منهم. حار في أمره، وامتزج حبه في كرهه، فاستهان بهم في غير احتقار.

صحيح الجسم مريضه، ليس فيه موضع ضعف، ولكن كذلك ليس فيه موضع قوة.

ورأسه كأنه مخزن مهوش أو دكان مبعثر وضع فيه الثوب الخلق بجانب الحجر الكريم، يتلاقى فيه مذهب أهل السنة بمذهب النشوء والارتقاء، ومذهب الجبر بمذهب الاختيار، وتجتمع في مكتبته كتب خطية قديمة في موضوعات قديمة، قد أكلتها الأرضة ونسج الزمان عليها خيوطا، وأحدث الكتب الأوروبية فكرا وطبعا وتجليدا. ولكن من هذين ظل في عقله وأثر في رأسه.

Shafi da ba'a sani ba