85

وأنا لو أصبت في عيني - لا قدر الله - لكانت طبيعتي أشبه بطبيعة أبي العلاء لا بطبيعة بشار، على بعد الفرق بيني وبينه في أنه خصب النفس غزير التفكير متعدد النواحي قوي النقد؛ ولعل فقد البصر في الصبا أخف وقعا من فقده في الكبر، فالصبي مرن، نفسه كأعضائه. سرعان ما تتشكل حسب الوظيفة وحسب الظروف، والكبير نفسه كعظام الهرم إذا صدعت صعب أن يجبر صدعها، وما أبعد الفرق بين فقير عاش فقيرا طول حياته وفقير أصابه الفقر بعد أن عاش عيشة طويلة في الغنى.

أحاطوني بأنواع من المتع؛ فهذا الراديو بجانبي ولكني لا أستسيغ الغناء كما كنت أستسغيه قبلا، ولا تهتم نفسي بالمحاضرات كما كانت تهتم بها، إنما هو شيء واحد كنت أستمتع به في الراديو وهو دلالته على الصباح في أول إذاعته وسماع القرآن يهدئ الأعصاب فيبعث الطمأنينة.

هذا هو الطبيب بعد طول انتظار يفحص عيني ليرى نتيجة العملية وما يخبئه الغد وليقول كلمته الحاسمة. ثم يقول بعد طول الفحص: إن العين قد بدأ التحامها والحمد لله، ولكن الأيام الآتية أيام دقيقة تحتاج إلى شدة عناية وقلة حركة والتزام للنوم على جانب واحد، إذ أقل مخالفة تفسد ما تم. فأهوي على الطبيب أقبله، ثم لا ألبث أن أستصعب الأوامر الجديدة وافتتاح درس في الصبر جديد بعد طول الصبر القديم، فإلى الله أشكو وأضرع.

هذه هي الأيام تمر، وتبدأ النفس تفقد كثيرا من قوتها، فهي تتأثر بما لم تكن تتأثر به وتجزع مما لم تكن تجزع منه: هذا ابن يصاب بالزكام فلم أصيب ؟ وهذا ابن دخل الدور الثاني في الامتحان فماذا تكون النتيجة؟ وهذا ابن تخرج من مدرسته ولا يجد عملا فلم لم يوظف؟ وهذا ابن تأخر عن موعد حضوره فلم تأخر؟ وأصبحت الدنيا أوهاما وتأثرات مفتعلة، وإذا دنيا الإنسان ليست إلا مجموعة أعصاب، إن سلمت وقويت ابتهج بالحياة ولم يتأثر بأحداثها، وإن تلفت تهدم كيانه وخار بنيانه.

ها هو الطبيب يرفع الرباط عن العين السليمة بعد نحو أربعين يوما وهي في ظلام حالك، ويبقى الرباط على العين المريضة، فحتى هذه العين السليمة لا تكاد ترى إلا بصيصا، من طول ما حرمت من أداء وظيفتها فلا تميز الباب من الشباك، فما بال العين المريضة حين يرفع عنها الرباط؟ وأشكو ذلك إلى الطبيب فيقول: إن هذا طبيعي فالعين تسترد وظيفتها شيئا فشيئا وقليلا قليلا.

وأضيق ذرعا بالمستشفى وحياته الرتيبة، فما يجري في يوم يجري كل يوم، والأصوات هي الأصوات والطعام هو الطعام، والأنين حولي من كل جانب، والأجراس تضرب من حين إلى حين والحركات لا تنقطع ليلا ولا نهارا.

وفي المستشفيات نقص لا يلفت إليه. فالأطباء يعنون بمقياس حرارة الجسم وتحليل ما يريدون منه، كما يعنون بنوع الغذاء الذي يلائم المريض أو لا يلائمه، ولكن يفوتهم شيء هام جدا ربما كان أهم من ذلك كله، وهو معالجة النفس. فلماذا لا يكون في المستشفى ممرضات للنفس كممرضات الجسم، يؤنسن المريض بأحاديثهن أو يقرأن له ويكون لهن من الثقافة ومن الحسن ما يكون بلسما للنفوس وشفاء لما ينتابها من ضيق وكآبة. وذكرت ذلك لمدير المستشفى فأقرني على ملاحظتي واستصعب تنفيذها لأسباب ذكرها.

لذلك سألت الطبيب أن ينقذني من المستشفى في أقرب وقت ممكن، مع كل ما كان يحمد فيه من نظافة ورعاية ودقة وإتقان، وصرح لي الطبيب أن أخرج على شرط أن يحاط الخروج بكل عناية، فلا حركة عنيفة، ولا اهتزاز يرج الجسم، حتى إذا وصلت إلى البيت حملت في محفة إلى أن وضعت على السرير وضعا، وكنت إذا تحركت فحركة خفيفة في أناة وهوادة، ثم بدأت أتعلم المشي كما يتعلمه الطفل؛ فلا أكاد أخطو حتى يعتريني الدوار فأعود إلى السرير ثم أعاود المشي. وفي يومين أو ثلاثة استطعت أن أمشي مترين أو ثلاثة، ولا يسمح لي بالخروج من الغرفة.

ثم يسمح لي بالانتقال إلى غرفة مجاورة، ثم يسمح لي أن أمشي في مستوى واحد، فلا أنزل سلما ولا أطلع سلما، وأنتهي من هذا الدور كله وتضيء العين تدريجا ويشفى الجسم تدريجيا، ولكني أجد نفسي مستعصية على الشفاء، فهي متبرمة من كل شيء منقبضة أشد الانقباض، فأستدعي طبيب الجسم مرة ومرتين وثلاثا فيفحص ويطيل الفحص ثم يقول إن الجسم سليم. فضغط الدم جيد والصدر جيد والأعضاء كلها على أحسن حال. ولكن المسألة مسألة نفسك أنت وأنت القادر على مداواتها، غير أني لا أجدلها دواء. وأحلل أسباب ذلك فأرجعها إلى أمرين: أولهما أمن طول الرقدة مع الظلام قد هد أعصابي، وثانيهما أن طبيب العيون لا يزال يمنعني من القراءة والكتابة وكانت حياتي كلها قراءة وكتابة، فلما حرمتهما أحاطني فراغ رهيب مخيف، والفراغ أدهى ما يمنى به الإنسان. فليس في الحياة سعادة إلا إذا ملئت بأي نوع من أنواع الامتلاء، جد أو هزل، وعمل أيا كان نوعه. فإذا طال الفراغ فالوبال كل الوبال، إن فارغي العقل معذورون في أن يملئوا فراغهم بنرد وشطرنج أو أي حديث ولو كان تافها لأنهم يشعرون بثقل الفراغ، والحياة لا تلذ إلا بنسيانها، وخير لذة ما نسي الإنسان فيها نفسه واستغرق فيها حتى نسي التلذذ بها؛ فلو فكر لاعب النرد والشطرنج في أنه يتلذذ بهما لفقد لذته، وخير أنواع اللذائذ العقلية ما استغرق فيها الإنسان بتأمله وتفكيره حتى مر عليه الوقت الطويل دون أن يشعر، ففراغي هو أهم أسباب ضيقي، وأهم أسباب أزمتي النفسية.

ولقد اعتدت أن أعتمد على الكتب أتخير مؤلفيها، وأصغي إلى حديثهم، وأستلهم ما يقولون، وأفكر فيما يعرضون، فلما عدمت هذا عدمت الركن واحتجت إلى دعامة أخرى أستند عليها. وتلمستها فيمن يقرأ لي ويكتب لي، ولكن لابد من زمن حتى آنس بهذا الاعتياد الجديد، ثم هذا كله لا يغني غناء الاعتماد على النفس، فقد أحتاج إلى قارئ في وقت فألتمسه فلا أجده، وقد يكون القارئ الكاتب موجودا ولا رغبة لي في قراءة ولا كتابة، وقد أحتاج إلى قارئ من نوع معين ولا أجده؛ على كل حال ارتبكت النفس وطال اضطرابها. وأدخل المكتبة لذكرى الماضي فيزيد ألمي. غذاء شهي وجوع مفرط، وقد حيل بين الجائع وغذائه، وأتساءل: هل يعود نظري كما كان فأستفيد منها كما كنت أستفيد؟ وهذه الآلاف من الكتب آلاف من الأصدقاء، لكل صديق طعمه ولونه وطرافة حديثه، وقد كان كل يمدني بالحديث الذي يحسن حين أشير إليه، فاليوم أراهم ولا أسمع حديثهم، ويمدون إلي أيديهم ولا أستطيع أن أمد إليهم يدي.

Shafi da ba'a sani ba