وعدت إلى الكتاب فهو أوفى وفي وخير صديق.
ها أنا أعود إلى كتبي ومكتبتي، وأبدأ في إعداد الجزء الأول من ظهر الإسلام، والاشتراك في نشر كتاب الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي، وأضع - مع الأستاذ زكي نجيب - خطة في وضع كتاب قصة الفلسفة اليونانية، ثم قصة الفلسفة الحديثة في جزءين، ثم قصة الأدب في العالم في أربعة أجزاء، وأشارك في تأليفها وإنجازها، وأجد بعد ذلك من الفراغ ما يمكنني من الاشتراك في المجالس العلمية والإشراف على أعمال لجنة التأليف والترجمة والنشر ونحو ذلك - حياة علمية هادئة لذيذة، لا خصومة فيها ولا رجاء فيها ولا أخذ ولا رد فيها. وهذا هو ما يتفق ومزاجي، فأنا لا أحب الجاه بالقدر الذي يجعلني أتحمل متاعب المنصب الإداري وما فيه من ضياع وقت واضطراب بال.
وقد كان بجانب عملي العلمي في البحث والتأليف والنشر أن اتجهت اتجاها أدبيا كان امتدادا لما بدأت به في الأيام الأولى من حياتي يوم اشتركت في تحرير السفور، في سنة (1933) فكر الأستاذ أحمد حسن الزيات في أن يشترك مع بعض أصدقائه من لجنة التأليف في إخراج مجلة الرسالة، وكنت أحدهم، فكنت أكتب في كل أسبوع - تقريبا - مقالة، وكان هذا عملا أدبيا يلذ نفسي بجانب بحثي العلمي، فأنا كل أسبوع أفكر في موضوع مقال وأحرره، واضطرني ذلك إلى قراءه كثير من الكتب الإنجليزية أستعرض فيها ما يكتب وكيف يكتب، وأعتمد أكثر ما أعتمد على وحي قلبي أو إعمال عقلي أو ترجمة مشاعري، وكانت مقالاتي تتوزعها هذه العوامل الثلاثة.
وأكثر ما اتجهت في هذه المقالات إلى نوع من الأدب تغلب عليه الصبغة الاجتماعية والنزعة الإصلاحية، فهذا أقرب أنواع الأدب إلى نفسي وأصدقها في التعبير عني، وخير الأدب ما كان صادقا يعبر عما في النفس من غير تقليد، ويترجم عما جربه الكاتب في الحياة من غير تلفيق، ولقد اطمأننت إلى هذا النوع من الكتابة، إذ كان يفتح عيني للملاحظة والتجربة. ويسري عن نفسي بالإفراج عما اختزنته من حرارة. فكنت أشعر بعد كتابة المقالة كما يشعر المحزون دمعت عينه أو المسرور ضحكت سنه. وكنت أحس كأن نحلة تطن في أذني لا تنقطع حتى أكتب ما يجيش في صدري، فإذا استولى موضوع المقالة على ذهني فهو تفكيري إذا أكلت أو شربت، وحلمي إذا نمت؛ وعمل لاوعيي الباطن إذا شغلت، ولهذا انقلبت هذه الظاهرة إلى عادة، ومن عادة إلى (كيف) متسلطن كما يشعر مدمن الدخان أو مدمن الخمر.
ولي تجربة في هذا الباب؛ وهي أني إذا عمدت إلى إعداد بحث علمي كفصل من فصول فجر الإسلام أو ضحى الإسلام فأنا أرى كل وقت صالح لهذا العمل ما لم أكن مريضا، أما في المقاولات الأدبية فلست صالحا في كل وقت، بل لابد أن تهيج عواطفي بعض الهياج، وتهتز نفسي بعض الاهتزاز، وأنسجم مع الموضوع كل الانسجام، فإذا لم تتيسر لي كل هذه الظروف كنت كمن يمتح من بئر أو ينحت من صخر.
وأحيانا أرى القلم يجري في الموضوع حتى لا أستطيع أن أوقفه، وأحيانا يسير في بطء وعلى مهل حتى لا أستطيع أن أستعجله، وأحيانا يتعثر فلا أجد بدا من الإعراض عن الكتابة. ومن الصعب تعليل ذلك، فقد يكون سببه صلاحية المزاج وسوءه، وقد يكون قوة الدواعي وضعفها، وقد يكون الاستعداد للتجلي وعدمه.
واعتدت منذ أول عهدي بالقلم أن أقصد إلى تجويد المعنى أكثر مما أقصد إلى تجويد اللفظ، وإلى توليد المعاني أكثر من تزويق الألفاظ، حتى كثيرا ما تختل (ضمائري) فأعيد الضمير على مؤنث مذكرا وعلى مذكر مؤنثا، لأني غارق في المعنى غير ملتفت إلى الألفاظ، ولا أتدارك ذلك إلا عند التصحيح، وقد يفوتني ذلك أيضا. ولتقديري للمعنى أميل إلى تبسيطه، حتى لأسرف أحيانا في إيضاحه، لشغفي بوصوله إلى القارئ بينا ولو ضحيت في ذلك بشيء من البلاغة.
وقد تعودت من الأدب الإنجليزي الدخول على الموضوع من غير مقدمة، وإيضاح المعنى من غير تكلف، والتقريب - ما أمكن - بين ما يكتب الكاتب وما يتكلمه المتكلم، وعدم التقدير للمقال الأجوف الذي يرن كالطبل ثم لا شيء وراءه. ومن حبي للإيضاح أفضل اللفظ ولو عاميا على اللفظ ولو فصيحا إذا وجدت العامي أوضح في الدلالة وأدق في التعبير، وأفضل الأسلوب السهل ولو لم يكن جزلا إذا وجدت الأسلوب الرصين يغمض المعنى أو يثير الاحتمالات، ويدعو إلى التأويلات.
ومن أجل هذا تشكك في بعض الأدباء: هل يعدونني أديبا أو عالما! ولم أقم لهذا الشك وزنا، فخير لي أن أصدق مع نفسي ومع غرضي ومع ميلي من أن أزوق أسلوبي وأكذب على نفسي ليجمع الناس على أدبي.
وقد اعتدت - عند كتابة مقال - أن أرسم الموضوع إجمالا لا تفصيلا، وإذا رسمته أبحت لنفسي أن أغيره وأبدله إذا جد جديد. وكثير من المعاني التفصيلية تأتي وأنا أكتب لا وأنا أفكر قبل أن أكتب، ولهذا لما أصبت في عيني ونهاني الأطباء عن الكتابة زمان صعب علي الإملاء، ولم أجد من غزارة المعاني ما كنت أجد عند مزاولة الكتابة بنفسي.
Shafi da ba'a sani ba