ومع ذلك فكان عقلي مفتحا أيضا لرؤية المتاعب ومنشئها وإدارة الحج وتقدير إحسانها أو إساءتها، وتدوين كل ذلك في مذكرتي؛ فهذا الزحام يشتد في أيام الحج وتضطرب حركة السير، وبخاصة عند نزول الناس من عرفات إلى منى، وفي الإمكان تنظيمه وترتيبه بشيء من العناية، وهناك قلة الماء في منى وصعوبة الحصول عليه، وفي الإمكان ترتيب ذلك. وهناك عدم العناية بالنظافة حول الحرم المكي والمدني وفي المساكن والشوارع. وهناك سوء الطريق بين جدة والمدينة إلى كثير من أمثال ذلك، ألمت لها، وفكرت في وجوه الخلاص منها، وأيقنت أن إدارة الحج بمعاونة العالم الإسلامي لها تستطيع بجهد قليل أو كثير أن تتلافى هذه العيوب وتريح الحجاج مما يلحقهم من أذى قد يصرفهم في كثير من الأحيان عما حجوا لأجله، من فراغ للعبادة واتصال بالله.
ورأيت من واجب الخاصة أن يدرسوا ما رأوا ويفكروا في العلاج ويقترحوا سبل الخلاص من الأدواء ويرفعوا صوتهم بها، فذلك خير من السكوت عليها. من أجل هذا كتبت تقريرا عن كل ما رأيت من داء وما أصف من علاج، ولم أبخس فيه الإدارة الحجازية فضلها في بسط الأمن ونشر الطمأنينة بين الحجاج على أنفسهم وأموالهم؛ ورفعت نسخة من هذا التقرير إلى وزارة الخارجية المصرية والجامعة، وتحدثت بخلاصة ذلك في الإذاعة المصرية، فكلمني المرحوم طلعت باشا حرب بأنه يريد مني أن أقابله ففعلت، وكان من رأيه ألا أثير هذه المسائل الشائكة، ولا أذكر هذه المعايب والمتاعب، لأنها تصرف كثيرا ممن يريدون الحج عنه، وتسيء إلى الإدارة الحجازية من غير داع، فشرحت له وجهة نظري في أن الإعلان عن هذه العيوب يدعو إلى إصلاحها، وما دمنا ساكتين فلا أمل في الإصلاح؛ وأخيرا تقاربت وجهة نظرنا واتفقنا على أن أكتب تقريرا مفصلا لا أذيعه في محطة الإذاعة ولا أنشره في الجرائد، ولكن أقدمه إليه وهو يرفعه إلى الإدارة الحجازية ويعمل ما وسعه في التفاهم معها ومع الحكومة المصرية على بذل الجهد في الإصلاح.
الفصل الثامن والعشرون
أتيحت لي فرصة أخرى سنة 1932 لأرى الغرب كما رأيت الشرق، وأرى المدنية الحديثة كما رأيت مدنية القرون الوسطى، وأرى من يسمونهم المتقدمين كما رأيت من يسمونهم المتأخرين، فيكون لي بدل العين عينان وبدل المنظر الواحد منظران، فاخترت عضوا في مؤتمر المستشرقين الذي ينعقد في ليدن بهولنده، وقررت السفر قبل الموعد بنحو شهرين، حتى أزور ما أمكنت زيارته من مدن أوربية، فركبت البحر إلى مرسيليا مع صديقي الدكتور عبد الرزاق السنهوري - وقد خبر فرنسا خبرة طويلة ودقيقة وعرف أهلها وبلادها إذ أقام فيها سنين يدرس القانون - وزرنا مرسيليا وتجولنا فيها وخرجنا إلى ضواحيها، ثم سافرنا إلى ليون ونزلناها وأقمنا فيها ثلاثة أيام رأينا فيها معالمها وجامعاتها وخرجنا إلى ريفها، ثم سافرنا إلى باريس ونزلنا في أوتيل فوايو بجانب مجلس الشيوخ وأقمت فيه نحو عشرة أيام، وقد وضع لي صديقي برنامجا دقيقا وطويلا رتبه بإمعان وبعد طول تفكير، ليريني أهم ما في باريس من جد ولهو وعلوم وفنون وأبنية ضخمة وآثار رائعة، ويريني المدينة والريف والعاصمة والضواحي، فكان برنامجا شاقا صعبا، كل يوم رؤية صباحا ورؤية مساء، ولم يسمح لي أن أستريح ولو قليلا، ولا أن أتذوق ما أرى، وأنا رجل بطيء الحركة أحب أن أتحرك على مهل وأتذوق على مهل وأستطعم ما آكل، وأحب أن أتغدى ثم أغفو قليلا بعد الغداء فلم يمكني من شيء من ذلك، فيوما يريني ميدان الباستيل وشوارع باريس الكبيرة وكنيسة مادلين وميدان الكونكورد ومنتزه الشانزليزيه، وفي المساء نذهب لمشاهدة رواية في الأوبرا، ويوما نرى برج إيفل ونصعد إليه، ونستمع للدليل يشرح لنا الغرض منه وكيفية تأسيسه ونزور الجماعات وبعض المدارس، ويوما نزور غابة بولونيا وقصر فرساي وقاعاته ومتحفه، ويوما نزور معامل سيفر المشهورة بعمل الصيني، ويوما نزور اللوفر ومتاحفه، ونخرج إلى حديقة لوكسمبورج وسرايها وكنيسة نوتردام، ويوما نزور مونمارتر وملاهيه والمكتبة الأهلية ونلتقي نظرة عامة على ما فيها، ويوما نزور سوق باريس في الصباح المبكر لنرى منظرا غريبا في البيع والشراء، ويوما نخرج إلى ضاحية بعيدة من ضواحي باريس نرى فيها ريف فرنسا وجماله، ويدعونا بعض أصدقاء الدكتور لنرى بيوتهم وعائلاتهم ونتعشى معهم إلخ.. إلخ.. كل ذلك في عشرة أيام كنت فيها متحركا لا أسكن، ونشيطا لا أخمد، ومجهدا لا أستريح إلا وقت النوم في أوتيل فوايو.
وأذكر مرة أننا نفذنا برنامجنا الصباحي ثم تغدينا في مطعم وجلسنا بعد الغداء نشرب القهوة لنستعد لتنفيذ برنامج بعد الظهر، ولكن السماء أمطرت في غزارة، وأحسست حاجتي الشديدة إلى الاستقرار بعد الغداء فلم يسمح لي، وأبى إلا أن يطبق البرنامج بكل دقة، فكنا نمشي في المطر الشديد لنصل إلى حيث نريد طبقا للبرنامج، وقد أتخمت من هذه الأيام العشرة بالمعلومات والمناظر والمعارض والأحداث حتى لكأنني أشاهد رواية سينمائية دام شريطها عشرة أيام واحتجت إلى سنين بعدها أهضم ما أتخمت به؛ ثم ودعت صديقي ذاهبا إلى إنجلترا.
وأبرق إلي صديق لي
1
يعد لي مسكنا في لندن ويستقبلني في محطتها، ويصل القطار إلى كاليه، وأعبر بحر المانش إلى دوفر، وأركب القطار إلى لندن فيستقبلني صديقي ويريني مسكني فيها؛ حجرة واسعة لطيفة فيها سرير، مفروشة فرشا بسيطا لطيفا في بيت من بيوت الطبقة الوسطى وفي حي كذلك، وتعد صاحبته ما أحتاجه من فطور وعشاء أما الغداء ففي المطعم، وأتعرف في المنزل بفتاة إنجليزية من أصل ألماني سألتها أن تصحبني في الخروج إلى معالم لندن ومشاهدها فقبلت، فزرنا المتحف البريطاني، واستعرضت فيه بعض المخطوطات، ودار بلدية لندن «جولد هول» وبنك إنجلترا وبرلمانها؛ ومسلة كليوبترة، وجريدة التيمس وميدان الطرف الأغر وتمثال نلسن وكنيسة «وستمنسر أبي» وجامعة لندن وقصر سنت جيمس وحديقة هايد بارك والمتحف الحربي إلخ.. وكنت في لندن أشعر ببعض الحرية وبعض الاستقلال، لمعرفتي اللغة الإنجليزية وقدرتي على التفاهم بها، على عكس ما كنت في فرنسا، إذا كنت عالة على صديقي لا أكاد أستطيع الحركة إلا معه، فإذا تخلى عني لم يكن أمامي إلا الجلوس في قهوة ، أو السير في شارع من شوارعها الفسيحة كما يسير الأصم الأبكم؛ والمسافر من فرنسا إلى إنجلترا يشعر بالفرق الكبير، حين يطأ أول أرض إنجليزية؛ فمن ساعة أن يتلقاه الحمالون الإنجليز ليحملوا أمتعته ويوصلوه إلى القطار يشعر بالهدوء التام والنظام الشامل وسير الأعمال فيها كأنها آلة دقيقة منظمة كل جزء منها منسجم مع ما حوله.
وأحببت أن أزور الريف الإنجليزي فرتب صديقاي الأستاذ حافظ وهبة وزير المملكة العربية السعودية في لندن والمرحوم الأستاذ أمين جمال الدين مدير البعثات في لندن رحلة إلى ويلز في عربة الأستاذ حافظ يسوقها الأستاذ جمال الدين، فكانت رحلة ممتعة عرفنا فيها الريف الإنجليزي، وكنا نسير على مهل، فإذا جاء وقت الغداء تغدينا في مطعم في الطريق، وإذا جاء المساء بحثنا عن بيت في الريف لقروي يضيفنا، ومازلنا في رحلتنا حتى وصلنا إلى كارنارفون فأقمنا فيها أياما.
وأقمت في إنجلترا نحو أربعين يوما، اهتممت فيها أن أرى أكثر ما يمكن أن أرى، وأتعرف من أحوالها الاجتماعية بقدر ما أستطيع، ولكن شيئا واحدا أسفت له أشد الأسف، وهو أني كنت حضرت بحثي الذي اعتزمت إلقاءه في مؤتمر المستشرقين باللغة العربية، وقد قيل لي بعد إن لغة الإلقاء لا بد أن تكون بالإنجليزية أو الفرنسية، فشغلت نفسي وأنا في لندن بالاستعانة بمترجم إلى الإنجليزية، وبكتابة ذلك على الآلة الكاتبة، فاستغرق مني ذلك مجهودا كبيرا وأضاع على زمنا كان يجب أن أصرفه في معرفة الحياة الإنجليزية في نواحيها المختلفة، والاستمتاع بمناظرها ومباهجها، وأخيرا سافرت إلى ليدن بهولنده حيث ينعقد المؤتمر.
Shafi da ba'a sani ba