3
وكنت أرتقب موعد هذا الدرس بشوق ولهفة، وكانت هذه السيدة تغذ عواطفي برقتها وجمالها وكمالها، كما كانت «مس بور» تغذي عقلي بثقافتها وإطلاعها وتجاربها.
كنت أحدثها يوما، وقد قامت الحرب العالمية الأولى فزل لساني ونقدت الإنجليز نقدا خفيفا أمامها، فما كان منها إلا أن دمعت عينها وقالت في رقة: «أتعيب قومي وأمتي»! فخجلت خجلا شديدا وقدرت طينتها التي يجرحها النسيم، ولم أعد بعد لمثلها، واستمررت على ذلك أكثر من سنة قرأت معها هذه القصص، وعلمتها قدرا لا بأس به من العربية. وكان يصعب عليها النطق بالعين فكانت تقول: إن عينكم تؤلمني، كنت أقول في نفسي مثل قولها. وكان لها نقد لطيف لما تتعلمه من العربية - نقد لا ندركه نحن لأنها لغتنا. نشأنا فيها ورضعناها مع لبن أمنا وألفناها منذ صغرنا. قالت لي مرة: إن اللغة العربية غير منطقية، ألا تراها تؤنث الشمس وهي قوية جبارة وتذكر القمر وهو لطيف وديع: فأولى أن نذكر الشمس ونؤنث القمر كما نفعل نحن في لغتنا. وقالت مرة: ألا تعجب من لغتكم تقول ثلاثة كتب، وتقول ألف كتاب، وكان الأولى ما دامت تقول ثلاثة كتب أن تقول ألف كتب. وهكذا من طرائفها الظريفة. واشتدت الحرب فجند زوجها، وانقطع عني خبره وخبرها.
ماذا كنت أكون لو لم أجتز هذه المرحلة؟ لقد كنت ذا عين واحدة فأصبحت ذا عينين، وكنت أعيش في الماضي فصرت أعيش في الماضي والحاضر، وكنت آكل صنفا واحدا من مائدة واحدة فصرت آكل من أصناف متعددة على موائد مختلفة، وكنت أرى الأشياء ذات لون واحد وطعم واحد، فلما وضعت بجانبها ألوان أخرى وطعوم أخرى تفتحت العين للمقارنة وتفتح العقل للنقد، لو لم أجتز هذه المرحلة ثم كنت أديبا لكنت أديبا رجعيا، يعنى بتزويق اللفظ لا جودة المعنى، ويعتمد على أدب الأقدمين دون أدب المحدثين، ويلتفت في تفكيره إلى الأولين دون الآخرين، ولو كنت مؤلفا لكنت جماعا أجمع مفترقا أو أفرق مجتمعا من غير تمحيص ولا نقد. فأنا مدين في إنتاجي الضعيف في الترجمة والتأليف والكتابة إلى هذه المرحلة بعد المراحل الأولى، وهذه الزهرة الجديدة ألفت باقة مع الأزهار القديمة.
الفصل الثامن عشر
ثم إن لهذه المرحلة تكملة. فقد كانت السنة سنة 1914 وقد تخرج من مدرسة المعلمين العليا بضعة من خيار الطلبة عرفوا بالتفوق في العلم والخلق؛ كان أكثرهم مرشحا للبعثة إلى إنجلترا ثم منعهم قيام الحرب، وكان بعضهم من القسم العلمي وبعضهم من القسم الأدبي،
1
شاءت الظروف السعيدة أن أتعرف بهم وأن أصادقهم، رأيتهم مثقفين من غير جنس ثقافتي، ثقافتهم عصرية بحتة، وثقافتي شرعية كثيرا وعصرية قليلا، منهم الذي بلغ درجة جيدة في الجغرافيا والتاريخ العام والأدب الإنجليزي، ومنهم من بلغ هذه الدرجة في الرياضة والطبيعة والكيمياء، وكلهم يعرف من الدنيا الجديدة والمدنية الحديثة أكثر مما أعرف، بحكم ثقافتهم وثقافتي، وقد اخترنا قهوة تطل على ميدان عابدين صاحبها لغوي شاعر يتلقفنا إذا حضرنا ليعرض علينا رأيه في كلمة اكتشف أنها غير صحيحة لأنها لم ترد في معاجم اللغة، أو ليسمعنا قصيدة من نظمه يحملنا على الإعجاب بها ولو من باب المجاملة. على كل حال كان يجتمع هؤلاء الصحاب في هذه القهوة عصر بعض الأيام فتكون منهم مائدة شهية مختلفة الطعوم متعددة الألوان.
هذا مغرم بالقصص الإنجليزية والمجلات الإنجليزية والمجلات يقرأ منها الكثير، وله ذوق حسن في الاختيار وشهوة قوية في التحدث عما اختار، وتحمس لما يقول وما يعرض، ولا يرضيه إلا أن يتحمس السامعون حماسته ويبتهجوا بما يقول ابتهاجه. وكان يقول إن الاستماع إلى الحديث فن كفن الإلقاء، من الناس من يجيده ومنهم من لا يجيده، وإنما يجيده السامع إذا تجاوب مع القائل في شعوره وعواطفه وانفعالاته، يضحك للحديث المضحك ويبكي للحديث الباكي وتظهر على أسارير وجهه كل هذه الاستجابات. وكان يعتقد في أني أجيد الاستماع فيتحدث إلي بأكثر مما يتحدث به مع غيري. فهو يقول مثلا: «اليوم قرأت قصة في مجلة نيشن
Nation
Shafi da ba'a sani ba