أما علاقتي مع التلاميذ فكانت علاقة صداقة، أحبهم ويحبونني، وزاد من صداقتنا أننا متقاربو السن، فلم يكن تلاميذ السنة الرابعة صغارا كما هم اليوم إنما كان أكثر الفصل الذي أدرس له بين الخامسة عشرة والعشرين، فكنت أتحدث إليهم في الشئون العامة مما لا يتصل بقواعد النحو والصرف، وأقص عليهم قصصا أدبية، وأتحدث إليهم في بعض ما تحدث به إلي صديقي الأستاذ، وأشعر بحنين إليهم إذا غبت عنهم في إجازة أو مرض. ويحنون إلي كذلك، وكانت عاطفتي الدينية مشبوبة قوية بفضل نشأتي في بيتي، ثم استمرت بصحبتي من عرفتهم في الإسكندرية، فكنت أؤدي الصلوات لأوقاتها، فإذا كنت في مقهى انتقلت من بين من أجالسهم إلى أقرب مسجد، فإن كنت في حي إفرنجي بعيد عن المساجد، تلمست عمارة كبيرة فيها بواب نوبي أو سوداني، وطلبت منه أن يحضر لي حصيرة صلاته لأصلي عليها بالقرب من الباب، فإذا لم أجد استنظفت أي مكان مستتر وخلعت جبتي وفرشتها وصليت عليها، ثم نفضتها ولبستها، ويوم الجمعة أتنقل في المساجد لصلاة الجمعة، فيوما بالبوصيري ويوما بمسجد أبي العباس، ويوما بمسجد سيدي بشر، وهكذا - وفي حجرتي أقرأ كل يوم ما تيسر من القرآن.
أما عاطفتي الوطنية فلم تكن قوية إلى ذلك العهد، لأني ولدت عقب الاحتلال بنحو أربع سنين، وقد استولى على المصريين إذ ذاك نوع من الخوف واليأس، وأحاط الإنجليز مظاهرهم بالعظمة والقوة، وكان حينا في المنشية مرادا للجنود والضباط الإنجليز الذين يسكنون القلعة بجوارنا؛ وكنت كثيرا ما أراهم بالجاكتة الحمراء والسراويل الزرقاء فأرعب منهم وأعدل عن طريقهم. وقلما كان يتحدث أبي في السياسة وشئونها، فإذا تحدث ففلسفته فيها كفلسفة كثير من الشعب، أن هذا قضاء الله وانتقام من عبيده. فبظلم المصريين بعضهم بعضا، وظلم حكامهم لهم وبعصيان الله في أوامره ونواهيه، سلط الله عليهم الإنجليز يسومونهم سوء العذاب، ولا يمكن أن ترفع عنا هذه الغاشية حتى يستقيم المصريون ويعدلوا ويلتزموا أوامر الدين. أما نقد الحكام في تصرفهم، أو نقد الإنجليز في حكمهم، فمسكوت عنه لهذه الفلسفة. وأذكر أني مرة سألته - وقد كبرت قليلا - عند سماعي لهذه الفلسفة: هل هؤلاء الإنجليز مطيعون الله حتى ينصرهم علينا ويمكن لهم في بلادنا؟ فزجرني ولم يجب. فلما اتصلت في الإسكندرية بصديقي الأستاذ الذي أثر في كثيرا، وكانت له في السياسة فلسفة أخرى، كفلسفة الشيخ محمد عبده، إذ كان من أنصاره لا من أنصار «مصطفى كامل»، وفلسفته هي وجوب الإصلاح الداخلي أولا، بنشر التعليم الصالح، وترقية أخلاق الشعب، ثم الاستقلال يأتي بعد ذلك تبعا عكس سياسة مصطفى كامل التي ترى أن ليس في الإمكان الإصلاح الداخلي للشعب ما لم يسبقه جلاء الإنجليز واستقلال المصريين. ولذلك كانت وطنية الشيخ محمد عبده عقلية، ووطنية مصطفى كامل وطنية شعورية، وقد تأثرت بكلام صديقي الأستاذ، وانحزت إلى رأيه.
وكنت في صباي لا أقرأ الجرائد، فهي لا تدخل بيتنا ولست أجلس في مقهى أقرؤها فيه، إلى أن كانت حادثة زواج الشيخ علي يوسف صاحب جريدة المؤيد بالست صفية بنت الشيخ السادات، وهي حادثة تحدث كل يوم ولا تحرك ساكنا، ولكن هذه الحادثة بنوع خاص أقامت مصر وأقعدتها، من الخديو إلى البائع الجوال، فرجل كهل تزوج بنتا بلغت سن الرشد برضاها دون رضاء أبيها، واعترض أبوها على هذا الزواج، فماذا عسى أن يكون لهذا الحادث من أهمية؟ ولكن لعبت الخصومات السياسية في هذا الموضوع، وإثارة شعور العامة عن طريق المحافظة على الدين، وفراغ عقول الناس، جعل هذه المسألة مسألة الرأي العام، فقد رفعت قضية بطلب فسخ عقد الزواج لعدم كفاءة الزوج للزوجة، إذ هي شريفة من نسل النبي، وهو ليس بشريف، واشترك في هذه المعمعة القضاء والسياسة والأدب، فجلسات المحاكم وما دار فيها من مرافعات تطلع على الناس في الجرائد، والشعراء يصنعون المقطوعات الطريفة في هذا الموضوع تنشرها الجرائد، والجرائد الهزلية تنشر«النكت» اللاذعة. وهكذا اهتاجت عواطف الناس، وترقبوا الجرائد وتلقفوها تطلع عليهم كل يوم بجديد.
ومن ذلك الحين اتصلت بالجرائد أقرؤها، فلما عينت في الإسكندرية كنت أذهب إلى مقهى «عم أحمد الشربتلي» أقرأ فيه اللواء والمؤيد والمقطم، فأرى جريدة اللواء تلهب الشعور الوطني ولا تجاوبها نفسي تبعا لشيخي، والمقطم تقاوم الحركة الوطنية ولم يجاوبها كذلك نفسي، وربما كان المؤيد أحب إلي لصبغته الإسلامية.
ولكن حدث حادث دنشواي.
2
ولست أنسى ليلة - وأنا في الإسكندرية - أقام فيها أحد أصحابنا وليمة عشاء على سطح منزله (وكان ذلك في يوم 27 يونيو سنة 1906) فجاءت الجرائد وفيها الحكم على أربعة من أهالي دنشواي بالإعدام، وعلى اثنين بالأشغال الشاقة المؤبدة، وعلى واحد بالسجن خمس عشرة سنة، وعلى ستة بالسجن سبع سنين، وعلى خمسة أن يجلد كل منهم خمسين جلدة، فتنغص عيشنا وانقلبت الوليمة مأتما، وبكى أكثرنا، ومن ذلك اليوم أصبحت عواطفي مع اللواء لا مع المؤيد ولا مع المقطم.
الفصل الثاني عشر
بعد سنتين في الإسكندرية، سعى أبي فعينت مدرسا، بمدرسة والدة عباس باشا الأول في أكتوبر سنة 1906 وهي المدرسة التي تعلمت فيها صغيرا، والتي كنت أحن إليها دائما أيامي في الأزهر، وقد تغيبت عنها قريبا من ست سنوات، ففرحت بها فرح الغائب عاد إلى وطنه، بل ورأيت فيها بعض من كانوا من تلامذة معي أيام كنت تلميذا، وبعض أساتذتي الذين علموني، ورأيتها قد اتسعت أبنيتها، وكثرت تلامذتها وأساتذتها، وأعطيت السنة الأولى والثانية لأن أساتذتي وأمثالهم كانوا يحتلون السنة الرابعة، وسرعان ما تجلت قوتي في القواعد دون الإنشاء، ولا أدري السبب في اكتشاف هذا السر، ولكن حدث في آخر العام أن نتيجة المدرسة في الشهادة الابتدائية كانت نتيجة باهرة، فرح بها الناظر فرحا شديدا، وبحث عن أستاذ في اللغة العربية يكتب خطابا إلى إدارة الوقف يخبرها فيها بهذه النتيجة، ويباهي بها غيرها من المدارس، فلم يجد أحدا إلا إياي، فدعاني الناظر وطلب مني أن أكتب هذا الخطاب، ومن حسن حظي أني كنت أحفظ مقدمة دلائل الإعجاز، يباهي فيها بعلم البلاغة وأنه فوق العلوم كلها، فسرقت الأسلوب، وباهيت بالمدرسة وفضلها على سائر المدارس على نمطه، وحججه، فسر منه الناظر كثيرا، ورد إلي اعتباري في الإنشاء أيضا.
في هذا العام أثناء الدراسة مرضت بحمي التيفود مرضا شديدا، حتى أشرفت على الهلاك، ولم يكن هناك عناية بالمرضى، كما يعنى اليوم، ولا يرضى الأهالي عن إرسال المريض إلى مستشفى الحميات كما يرسل اليوم، ولا عزل له عن سائر من في البيت حتى لا تنتشر العدوى، ولا استدعاء طبيب مختص يشرف إشرافا دائما على العلاج - لا شيء من ذلك - ولكن فرشت لي حشية على الحصير، في وسط الغرفة كما كنت أنام، وترك أمري لله، فلم يدع أهلي طبيبا، وكل ما في الأمر أن نفسي عافت الأكل فتركته. ومن حين لأخر تأتي عجائز الحارة فتصف لأمي وصفات بلدية للشفاء من المرض، فأقبلها حينا، وأرفضها أحيانا، ويزورني أبي قبل خروجه إلى عمله، فيجلس على رأسي ويضع يده على جبهتي، ويقرأ الفاتحة، وآية الكرسي، والمعوذتين، ويختم ذلك بقوله: «حصنتك بالحي القيوم الذي لا يموت أبدا، ودفعت عنك السوء بألف ألف لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم». ثم ينفث في وجهي، وإذا عاد من عمله في المساء كرر هذا الدعاء. ونجوت منها بأعجوبة، بعد أن كان الموت أقرب إلي من حبل الوريد، ومكثت بعد ذلك مدة طويلة في دور النقاهة.
Shafi da ba'a sani ba