Rayuwar Gabas
حياة الشرق: دوله وشعوبه وماضيه وحاضره
Nau'ikan
إن أهل الشرق جميعا سواء كانوا من المدن أم من أهل الريف والقرى يكادون لا يجاوزون في ابتغاء الرزق حد الكفاف، وفي كل يوم ترى موظفا يموت فجأة فترى غداة موته طلب استرحام من أسرته على صفحات الجرائد منبئا الحكومة التي كان يخدمها والأمة التي كان يعيش بين ظهرانيها أنه لا يملك شيئا وأن له أربعة أو خمسة أولاد قصر، وأن معاشه الذي يبلغ ثمانية جنيهات بعد أن كان يتقاضى أربعين أو خمسين جنيها لا يكفي لقوت أولاده، فتنفحهم الحكومة مائة جنيه أو مائتين أو خمسمائة فلا تلبث أن تنفد ثم تعود الكرة ويكون الموظف الأمين المتوفى قد نسي وأصدقاؤه قد انفضوا من حول أولاده وأقاربه تنحوا عن أرملته، كما هي العادة في بلاد الشرق؛ فلا يجد نداؤهم أذنا مصغية فيقضون البقية من حياتهم في المسغبة والمتربة. وقد ترى قاضيا كبيرا وضابطا عظيما أو طبيبا شهيرا وقد صار أولاده كتبة أو موظفين صغارا في أحد المصارف، لأن الرجل لم يستطع الادخار لهم والأم لا تملك طرق تدبير الحياة. والتعاون في الشرق مفقود، وفكرة التأمين على الحياة غير شائعة وتقوم ضدها فكرة القضاء والقدر وتحديد الأجل وترك الأمر لله لأنه يضمن الأرزاق. وعندما مات المرحوم الشيخ محمد عبده لم يكن يملك شيئا سوى بيت مبني بالطوب الني على أرض أخذها هبة من لادي بلنت، فمنحت الحكومة أسرته ألف جنيه، مع أنه كان في مقام رئيس أساقفة كانتربري أو أسقف باريس، ولو مات أحد هذين لوجدوا وراءه ثروة ضخمة، وقد مات قاسم أمين وانتفعت أسرته بمال التأمين وغيره كثيرون. فقل لي بربك ما هذه الحال التي نحن عليها، وماذا تكون نتيجة حياة رجالنا المهددين في أرزاقهم، وقديما قال الإمام الشافعي: «لو شغلت ببصلة ما حللت مسألة.» أليست هذه عقدة اجتماعية كفيلة بانشغال بالنا؟ بل إن المشتغلين بمسائلنا السياسية لم يكونوا أسعد حظا من علمائنا العظام في العهد الغابر، فلم يترك مصطفى كامل ثروة ومات محمد فريد شريدا طريدا لا يملك شيئا، كأنهما بعض الزهاد في صوامع الأديرة!
وإذا انتقلت إلى الطبقات النازلة من الفلاحين فإن ما يعانونه من الفقر الذي وصفنا طرفا منه لا تصل البلاغة إلى الإلمام به، وذلك ناشئ عن تبذيرهم وعدم تدبيرهم.
قال بريلسفورد الاقتصادي يصف حالة الفلاح المصري في مستهل هذا القرن:
إن مناظر الفاقة التي رأيتها في القرى لم أشهد قط مثلها في جبال مكدونيه ولا في بقاع دونجال، فهذه القرى في مصر إنما هي ركام من الأكواخ «العشش» المبنية من الطين لا يتخللها أشجار ولا أزهار ولا غياض ولا بساتين، والأكواخ من الداخل ليست مستوية الأرض وليس لها نوافذ فهي أشبه بالسراديب الصغيرة، مؤلفة في الغالب من غرفتين صغيرتين غير مشيدتين بالجص ولا مفروشتين بالبسط والطنافس، ولم يكن فيها من الأثاث والماعون سوى بعض أدوات الطبخ من النحاس والفخار وجرة مملوءة من طعام الذرة وأخرى ملآنة بالماء العاكر الذي تنقله المرأة على رأسها صباح مساء.
ولم يشأ بريلسفورد أن يجرح إحساس الإنجليز ويذكر مجاورة الأنعام للإنسان ولا روث البهائم ولا تراكم حطب القطن على السطوح مما يبعث على اشتعال النار لأبسط شرر، ولم يذكر المستنقعات ولا أكوام الطين والتراب ولا قذارة الملابس وصفرة وجوه السكان وقلة تغذيتهم وانتشار البلاجرا والإنكلستوما والبلهارسيا، لأنه يعلم أن الإنجليز حكموا البلاد منذ أربعين عاما لترقية الفلاح وإنقاذه من مخالب الإفلاس، وطالما افتخر كرومر بأنه صديق أصحاب الجلاليب الزرقاء، التي قال ظريف في وصفها إنها مصبوغة بالنيل الهندي رمزا على حدادهم لما هم فيه من البؤس والضراء، وقال: «رأيت بنفسي في قرية ط. أكواخا مصنوعة بأيدي الفلاحين، وهي عبارة عن حوائط من الصفيح والبوص مغلفة بالوحل وليس لها نوافذ، ولا بد للداخل إليها أن ينحني لينساب داخلها انسياب الكلب في وكره أو الثعبان في جحره. وعلى مقربة منها وعلى قيد بضعة أمتار قصر مشيد على ألف متر، له نوافذ وأبواب وشرفات وأعمدة، يتخلله الهواء والنور وحوله أشجار وجنان وفيه سائر أنواع النعيم الأرضي ومداخنه تعمل ليل نهار في تسخين الماء وطهي الأطعمة. وهذا القصر لصاحب الأرض التي يزرعها سكان تلك القرية، وهو يراها منذ عشرات السنين ولم يخطر بباله أن يحسن حالة ساكنيها، كما أنه لم يخطر ببال ساكنيها أن يقتصدوا لتحسين حالتهم. قد رأيت هذا في سنة 1908، وتكلمت في هذا الشأن مع صاحب القصر فضحك من قولي، وقال إن الفلاحين لا يحبون إلا هذه المساكن، وإنهم لا يقبلون على السكن في سواها.» ا.ه. ومنذ خمس سنين قامت ضجة حول بناء مساكن نموذجية للفلاحين وشيد أحدها فعلا في المعرض الزراعي، ولكن ما لبث أن شيد حتى هدم ولم ينفذ المشروع في إحدى جهات القطر المصري.
أما المدن فإن الأحياء الوطنية منها لا تزال على ما كانت عليه في القرون الوسطى، وقد قال في وصفها لويس برزان يصف أهل القاهرة ما نصه:
لعل الفقر والفاقة في بيوت الطبقة الفقيرة في القاهرة وسائر بلاد مصر أشد منهما في سائر الأقطار الشرقية، فمثل هذه البيوت مؤلف في الغالب من غرفتين أو ثلاث لا نوافذ لها لدخول نور الشمس والهواء النقي، متصلة بإيوان لا يقل عنها ظلمة، وترى الدمام يتساقط من السقوف ومن ألواح الجدران الخشبية النخرة على أرض المسكن القذرة، والهوام والحشرات مستقرة على الحصر والفرش.
وإذا التفت إلى وسائل العيش وأسباب القوت رأيت أجور بعض العمال لم تتناسب مع غلاء الأسعار، بحيث إن العامل لا يستطيع مماشاة السوق وأصبح عاجزا عن تحصيل ضروريات الحياة، وهذه الحال هي أشد ما يكون في المدن والمراكز الصناعية حيث أهل الطبقات الدنيا من عملة وساقة وحوذيين وباعة وغيرهم لا طاقة لهم البتة على احتمالها، فنشأت عن هذه الحالة العامة البلوى، الشادة للخناق، المستحكمة عرى الضيق، مظاهر فساد الأخلاق كشرب الخمر وانتشار الفجور وارتكاب الجرائم والجنايات. ا.ه.
وفي نظرنا أنه لا علاج للفقر والجهل في الريف والمدن إلا بنشر التهذيب الديني والتبشير بمبادئ الاقتصاد والادخار، فالدين والاقتصاد وحدهما دون غيرهما كفيلان بالإصلاح.
الفصل الثالث عشر
Shafi da ba'a sani ba