Rayuwar Gabas
حياة الشرق: دوله وشعوبه وماضيه وحاضره
Nau'ikan
يجب أن تكون السياسة الاستعمارية قائمة على قواعد التبصر والحكمة، ويجب أن تكون أصول أحكامنا التي هي الصلة بيننا وبين جميع الشعوب الداخلة في حكمنا من حيث الاعتبار السياسي والاقتصادي والأدبي؛ قواعد صحيحة سليمة منزهة عن الشائبة والنقص، هذا هو حجر الزاوية في بناء الإمبراطورية. إن المبرر الأكبر للاستعمار يجب أن يظهر جليا في حسن التصرف بما في أيدي هذه الإمبراطورية من القوى. فإن استطعنا ذلك فكنا فيه من الحكماء ولينا وجوهنا شطر المستقبل رفيعي الجباه لا نخشى أن يعرونا ما عرا الإمبراطورية الرومانية من قبل من الفساد والدخل، وإن لم نستطع فكنا فيه من الجهلاء الأغبياء فقد استحقت الإمبراطورية البريطانية الانهيار من عل ولسرعان ما تتناثر حلقاتها وتتبدد بعد الاجتماع.
وظاهر من كلام هذا الرجل المسمى باللورد كرومر أنه ينسج على منوال هانوتو الذي سبقه إلى ذلك بسبع سنين، ويتميز عليه بأن هانوتو كان وزير الخارجية ولم ينفذ سياسته بشخصه في تونس، ولكن كرومر نفذها بنفسه ورأى ثمارها في مصر، ومن الجلي أنه لم ينصح بالرفق والحكمة والألفة لخدمة الشعوب المحكومة ولا لاستدرار خيراتها، وهو شيء مضمون، ولكن خوفا على كيان الإمبراطورية من التزعزع فقد أخذ الناس يلهجون في بداية القرن العشرين بقرب زوال الإمبراطورية بعد حرب الترنسفال، وأخذوا يقارنون بينها وبين إمبراطورية الرومان. ولما كان كرومر أحصف وأقدر حكامهم، وكانت عقليته تشبه عقلية بروقنصل روماني، لا ينقصه إلا الخوذة والبلطة والطيلسان والفولاذ وما إليها من مظاهر الأبهة والسلطة؛ فقد رأى أن يتفضل على العالم بنصائحه، ليقال إنه أول بان في أركان تلك الإمبراطورية البريطانية، ومنقذها العظيم الذي رسم لها خطة النجاة من الوقوع في الخطر الذي وقع فيه أسلافها العظماء الذين نشئوا على ضفاف نهر طيبر.
ولكن كرومر لم يحسب حساب دنشواي التي أهرق فيها دماء الفلاحين، ولم يحسب حساب الحرب العظمى، ولم يحسب حساب نهضة الشرق والإسلام التي نرى مظاهرها في كل قطر وأمة؛ فمضى بحسرة سقطته عن عرشه الوهمي، وعاش بعد خروجه من مصر عشر سنوات تجرع في أثنائها كئوس الندم على ما جنت يداه في تلك القرية الصغيرة، ورأى بعينه بداية الانحلال الذي أخذ يدب في عناصر الدولة البريطانية، وها هم رجال كان يحسبهم لعهده صعاليك أو مفاليك من شعراء السياسة وأرباب الأحلام يتولون السلطة العليا في جميع أقطار أوروبا، فلشد ما كانت رجعية كرومر عندما ظن أن عهد رومة سوف يعود وأن إنجلترا المسيحية المتحضرة ستكون وارثة ذلك الصولجان الوثني الغشوم!
جبل أولمب الحديث
ولو أننا تمشينا مع كرومر، الذي أراد لورد لويد أن ينسج على منواله في مصر وأخذ يتمشدق بذكره وانتحل سياسته «فاصوخة» وتميمة وحجابا، فكانت عاقبته السقوط والفشل من جراء سياسته نفسها؛ لو أننا تمشينا مع فلسفته الاستعمارية وصدقناه طرفة عين وقسنا علمه بعمله ونظرياته بتنفيذه، لكانت النتيجة بالمثل السائر «اقرأ تفرح، جرب تحزن!» فإن عهد كرومر كان عهد استئثار واستبداد وقسوة واندثار للشخصية المصرية، وفي أثنائه ورد تلغراف جرانڤيل الذي يؤذن بخضوع الرئيس المصري للمرءوس الإنجليزي. وكان الجفاء على أشده بين الحاكم والمحكوم، فكان نادي تيرف كلوب أشبه الأشياء في القاهرة الحديثة بجبل أولمب عند اليونان القدماء مهبط الآلهة ومسرحهم، وكان الإنجليز يعيشون في مصر عيشة الأرباب في البلاد القديمة، وكانت علاقة الأساتذة الإنجليز الذين كان يحشدهم دنلوب من شوارع لندن وأبردين بتلاميذهم المصريين علاقة السيد الآمر المطاع المتعجرف بالعبد الخاضع الذليل. وقد ذقنا نحن وعشرات ألوف التلاميذ مرارة هذه المعاملة في المدارس الثانوية والعالية، ولم نر قط اجتماعا يلم شمل المصريين والإنجليز، ولم يتبادلوا قط كلمة مودة أو إخاء، بل كانوا يعيشون في السماء الثالثة، وإن خاطبتهم في ذلك قالوا: «إننا لا نريد أن نختلط خوفا من سقوط الهيبة.» أما في الهند فالحال على أبشع ما يكون، فإن الوطنيين لا يركبون إلا في الدرجة الثالثة، وإذا ركب أحدهم في الدرجة الأولى يوقف القطار ويرمى به وبمتاعه في أقرب محطة. وروى لنا الأستاذ الثعالبي عن هولندا أن الحاكم الوطني إذا دنا من الهولندي يركع ويجلس القرفصاء ولا يرفع عينيه في وجه محدثه.
ومع هذا فإن الكاتب الفاضل والعالم المدقق لوثروب ستودارد مؤلف «حاضر العالم الإسلامي» الذي نقله إلى العربية الأستاذ النابه النابغ عجاح نويهض بك (مصر سنة 1926)؛ يقول في ص10 من الجزء الثاني:
ففي القرن التاسع عشر كانت جميع الدول المستعمرة أخذت تشعر شعورا حقيقيا عميقا بالغاية الفضلى المثلى وهي واجب الإنسان الأبيض ... معتقدين الاعتقاد الراسخ كله أن امتداد السيطرة السياسية الغربية إنما هو الذريعة الفضلى وربما الوحيدة لإنهاض الجانب المنحط المتدلي من العالم وللأخذ بنصرته في سبيل التجدد والارتقاء. والحقيقة التي لا مراء فيها أن المستعمرين لم يغيروا من خطة الاغتيال والاستثمار والاستعباد، ولكنهم عدلوا طريقة الاستعمار بما يعود عليهم من الفوائد، ويديم سلطتهم ويحفظ كيان إمبراطوريتهم من الزوال. والحقيقة التي لا مراء فيها أيضا أنه ما كادت تطلع سنة 1900 حتى كانت الشعوب الشرقية كافة قد نفضت عنها خلقانها وبددت غياهب جهلها وحطمت عقال خمولها وخرجت عن تلك الدائرة المغلقة وأنشأت تمهد لنفسها مهيعا مفضيا إلى التجدد الصحيح والارتقاء.
وإن كان الشرق قد تبدلت شئونه غير أن سياسة أوروبا الجائرة لم تتبدل.
يكاد الباحثون لا يدركون تعليل هجوم أوروبا في هذه الآونة الأخيرة على الشرق ذلك الهجوم الفظيع. والحق أن أوروبا كانت صابرة ومتمهلة في افتراض سكون الشرق ونومه واستسلامه، فلما رأت بوادر نهوضه في أواخر القرن التاسع عشر وفجر العشرين طفقت أوروبا تتجهم في وجه الشرق المستيقظ الناهض وتستبيح لنفسها مناهضته وتسميم عواطفه الثائرة وروحه الهائج، فأساءت إليه بذلك في بضع سنين معدودة إساءة تفوق جميع ما ناله منها من الشر والهوان طيلة مائتي سنة خلت.
وما أصدق ما كتبه سيدني لو الإنجليزي في سنة 1912 وتمثل به ستودارد:
Shafi da ba'a sani ba