Rayuwar Gabas
حياة الشرق: دوله وشعوبه وماضيه وحاضره
Nau'ikan
إن الزعماء السياسيين في الشرق العربي الذين عرفناهم ورأينا أعمالهم يعدون على الأصابع، وقد يرد ذكر بعضهم عرضا في غير هذا المكان من الكتاب، وفي مقدمتهم بالنسبة لمصر المرحومون محمود سامي البارودي ومصطفى كامل ومحمد فريد وسعد زغلول، وبالنسبة لسوريا المرحومان السيدان عبد الرحمن الكواكبي وفوزي الغزي، وبالنسبة لشمال أفريقيا خير الدين باشا التونسي المتوفى سنة 1890 والسيد عبد العزيز الثعالبي. وقد ظهر في تركيا عشرات من الزعماء، أولهم المرحوم مدحت باشا ومحمد طلعت، ولم يكونا من الزعماء الذين جمعوا بين صفتي المحاربة والسياسة أمثال أنور ونيازي وجمال ومصطفى كمال والمرحوم أحمد عرابي المصري. ولا نريد الإفاضة في ذكر الأسماء إنما ذكرنا هؤلاء من قبيل التمثيل والاستشهاد. ولو أننا أخذنا أحدهم نموذجا لبقيتهم كان في سرد حوادث حياته ما يدل على حالة الزعيم السياسي في الشرق العربي الإسلامي بصفة عامة، فقد نشأ مصطفى كامل في مصر من والدين مصريين، وتربى في المدارس الحكومية إلى أن دخل مدرسة الحقوق وظهر نبوغه وميله إلى الاشتغال بالسياسة، وكان الاحتلال الإنجليزي حديث العهد، وكان ناظر المدرسة فرنسيا اسمه مسيو تستو وكان عالما ومحبا للمصريين، ولكن كان يريد الظهور بالإخلاص للإنجليز فتسبب في طرده من المدرسة، وألصق تهمة طرده بالمرحوم عمر لطفي بك الذي كان وكيل المدرسة ليخلص من عار اضطهاد طالب يحب الحرية كما هي عادة الفرنسويين، وقصد المرحوم مصطفى كامل إلى فرنسا فدخل كلية الحقوق بتولوز واستعان ببعض رجال السياسة والأدب في إسماع صوته باللغة الفرنسوية، ثم عاد إلى وطنه وخطب وكتب وأسس مدرسة وصحفا، وقد لقي من الاضطهاد والعداوة في أول أمره من رجال مصريين كان ينتظر أن يكونوا له عونا فكانوا عليه حربا، كالمرحوم الشيخ علي يوسف الذي كان يريد أن يكون زعيما سياسيا فضلا عن اشتغاله بالصحافة، وغير السيد علي كثيرون من نوع آخر كانوا دساسين ومتجسسين وحاسدين، غايتهم إلحاق الأذى بكل من يقوم بعمل نافع لمصر والمصريين.
وكان بخلاف هؤلاء جيش من الشرقيين من أجناس مختلفة ومعتقدات شتى قد حلوا أرض مصر ونزلوا بها ضيوفا فأكرمت مثواهم وفتحت لهم صدرها وأغنتهم بالمال والنوال واعتبرتهم أساتذة ومرشدين، وكانوا هم أيضا حربا عليها، وقد انتفعوا بشرقيتهم وتمكنهم من اللغة العربية فأسسوا بعض الجرائد والمجلات ووقفوها على محاربة مصر وأذاها في شخص مصطفى كامل وكل من يسلك خطته من المصريين، وكان هؤلاء الشرقيون متصلين برجال الحكم من الإنجليز ويتناولون المرتبات ويقبضون النقود ثمنا لإضرارهم بمصر التي آوتهم ويدعون أن مصر هذه غنيمة لهم ولغيرهم وليس لأهلها حق عليها، وكانت الوكالة البريطانية في عهد كرومر أمهم الحنون وكعبتهم التي إليها يقصدون ويولون وجوههم شطرها صباح مساء، ليشوا بمصر والمصريين كأن بينهم وبيننا ثأر قديم أو دم مهدور من سنة «ستين»، فكان هؤلاء في مقدمة أعداء مصطفى كامل وأنصاره. ولكن على الرغم من هؤلاء وأولئك نجح ذلك الشاب في نهضته وبلغت دعوته أركان الشرق العربي وغير العربي، وكانت جرائده ومجلاته مقروءة في الصين والهند وإندونيسيا وتركستان وإيران والأفغان وتركيا وسوريا وبلاد العرب والعراق.
وصارت مصر في حياته القصيرة موردا عذبا لرجال السياسة والأدب والصحافة من إنجلترا وفرنسا وألمانيا، بفضل مساعيه التي كان يبذلها في كل عام ودعوته الواسعة الانتشار التي تمكن بها من جذب قلوب فئة كبيرة من المنورين ومحبي الإصلاح في أوروبا. ولكن أهل وطنه الذين كانوا ملتفين حوله كانوا أقلية لا تذكر بالنظر إلى عظم شأن الدعوة، وقد تمكن خصومه في سنة 1904 من التفريق بينه وبين الخديو السابق عباس حلمي الثاني بسبب قضية الزوجية الشهيرة، وظن الإنجليز أن ذلك سيكون سببا في سقوط الزعيم الشاب فلم تحقق الأيام ظنهم ونجا من كيدهم بفضل ثباته وبعد نظره. وفي سنة 1906 تمكن من إنقاذ فلاحي دنشواي الذين حكم عليهم بأحكام قاسية وهم أبرياء، ولكنه لم يستطع إحياء الموتى الذين أعدموا على المشانق. وفي سنة 1907 أنشأ جريدتين يوميتين باللغتين الفرنسوية والإنجليزية، وكانت صحته قد أنهكها الانهماك في العمل العصيب المضني، وقد صادفته عقبات كثيرة تمكن بعلو همته من تذليلها. وفي أوائل فبراير سنة 1908 قضى نحبه بعد صراع شديد بين الحياة والموت وبعد مرض طويل استنفد البقية الباقية من قواه، وكان لدى وفاته في العام الرابع والثلاثين من عمره.
ولم يتذوق هذا الشاب شيئا من ملذات الحياة، بل عاش ومات وهو لا يعرف لنفسه لذة إلا خدمة وطنه والعمل على خلاصه من براثن أعدائه، ولم يتزوج ولم يؤسس أسرة ولم يرزق ولدا، ولم يتمتع بشيء مما تمتع به أعداء مصر الذين خانوها وعاشوا على ضفاف نيلها عشرات السنين ولا يزال بعضهم على قيد الحياة كالأخطبوط يمتص الدماء ولا يشبع، مات مصطفى كامل فقيرا، يكاد يكون معدما، ولم يوجد بخزانته مال يكفي لنفقات دفنه، وهذا أسطع برهان على نزاهته وشرفه وإخلاصه.
فهذا شاب أعطى حياته لمصر ولم يطلب منها شيئا، ولم يعرف المصريون قدره حق المعرفة إلا بعد وفاته، فقد كان يوم موته أعظم أيام مصر حزنا، وهو اليوم الذي وصفه قاسم أمين بأنه يوم خفوق قلب مصر للمرة الثانية بعد حادث دنشواي.
وقد قال المرحوم مصطفى كامل في صيف سنة 1905 في حفل من الباشوات والأعيان لرجل قدم إليه نسخة من كتاب «تحرير مصر»:
سأقرأ كتابك بعناية تامة، وإني أشجعك على خدمة وطنك وإن كانت خدمة الوطن في مصر تنقلب وبالا على صاحبها، فها أنا أضحي بصحتي ووقتي، وكان الأنفع لي ولأسرتي أن أشتغل بالمحاماة فأقتني ثروة وأحتفظ بصحتي ولكنني ضحيت بهذا كله، ومع هذا فإنني لا أنجو من مخالب الشتامين والسبابين الذين يقابلون عملي بالذم والقدح في كل يوم، مثل فلان الذي يصفني بأنني هلفوت وجماعة كذا الذين يضربون الأمثال بأن الوطنية آخر ملجأ للهجاص!
هذا كان كلام المرحوم مصطفى كامل بنصه، ولعل الأحياء من أصدقائه الذين حضروا هذا المجلس وغيره يعلمون مقدار تألمه من حملة صحف خصومه من المصريين وغيرهم ضده، وبعد أن مضى أكثر من عشرين عاما على وفاة المرحوم مصطفى كامل يزداد فضله ظهورا وجلاء في كل يوم ويبين فضله على غيره، ولا يمكن وصف أعمال خصومه ضده من أي جنس كانوا بغير الخيانة ، وعندما ألقى خطبته الكبرى في شتاء سنة 1908 في تياترو زيزينيا بالإسكندرية، وكانت كلمته الأخيرة لوطنه، وهي التي قال فيها:
بلادي لك قلبي وفؤادي، أنت الحياة ولا حياة إلا بك يا مصر!
نقلتها «الجريدة» لسان حال حزب الأمة، الذي ألف ليناوئ الحزب الوطني، وجعلت عنوانها «ناقل الكفر ليس بكافر». ومن الواضح أن تلك الخطبة التي كانت تدعو إلى تحرير البلاد واستقلالها والاعتراف بحقوقها المقدسة والعمل على إسعاد الشعب المصري؛ كانت تعد في نظر الجريدة والقائمين بها في ذلك الحين 1908 كفرا، أما الصبر على الاحتلال والخضوع للحكم الأجنبي ومساعدة الغاصب على اغتيال حقوق البلاد واستثمارها؛ فكان في نظرهم هو الإيمان بعينه، لأنه كان هو منهاج حزبهم كما كان منهاج حزب الإصلاح على المبادئ الدستورية الذي كان يرمي إلى خدمة الأريكة الخديوية.
Shafi da ba'a sani ba