Rayuwar Gabas
حياة الشرق: دوله وشعوبه وماضيه وحاضره
Nau'ikan
وأجاب الملك فيصل على هذه البرقية بمثلها وجاء في برقيته هو أيضا، ولا شك أن البرقيتين كانتا معلومتين لدى وزارة الخارجية الإنجليزية:
لا أشك بأن المعاهدة التي ستعقد قريبا بيننا ستؤكد صلات التحالف التي شيدتها في ميادين الحرب الضروس دماء الإنجليز والعرب، وستكون مؤسسة على دعائم لا تتزلزل.» والشعب في حماسته والأمة في ابتهاجها والصحف في اندفاعها والملك فيصل في فرحه ببلوغ أمنيته بعد سفره من سورية، فلم يدرك أحد أهمية هاتين البرقيتين ولعلهم أدركوا ولم يكترثوا، وظنوا أن الانتداب قد زال والاستقلال التام قد أعلن، ولكن وزارة الخارجية في لندن لم تكن هائجة الأعصاب عند تبادل الرسالتين ولم تخطئ في تقديرها لدى اختيار زمان الإرسال ومكانه. لقد ارتبط الملكان والحكومتان، والملك فيصل يعلم مكانة إنجلترا وقوتها وبعد مراميها وهو يعلم بأمر من وبرضا من حلت مسألة عرش العراق.
ولا يزال لغز المعاهدة معقدا لا يرجى له حل.
ففي السنة الأولى من الحكم الفيصلي بدأت المفاوضات لعقد المعاهدة وأرسلت إنجلترا الميجور يونج فحضر إلى بغداد، وفي أثناء المفاوضات التي هددت مرات عدة بالانقطاع هجم بعض رعايا ابن سعود من «الإخوان» على بعض عشائر العراق في أبو الغار وقتلت ونهبت كثيرا، وانتهت هذه الحادثة باستقالة خمسة من وزراء العراق، وتمكن سير كوكس من تنفيذ خطته وحل مسألة الحدود وفقا لسياسته بمؤتمر المحمرة، ثم أخذت العراق تفكر في تأليف حزب سياسي وطلبت ذلك من الحكومة فماطلتها ثم سمحت لها بتأسيس الحزب الوطني العراقي وغايته المحافظة على استقلال العراق ثم تأسس حزب النهضة والحزب الحر. وتقدم الحزب الوطني إلى الملك بمطالب ثلاثة، أولها: الكف عن التدخل الإنجليزي في إدارة الحكومة، وتأليف وزارة حرة، وتأجيل المفاوضة والمعاهدة إلى ما بعد تأليف المجلس التأسيسي.
وأوفد جلالة فيصل الأستاذ فهمي المدرس كبير أمنائه ليشرف على سماع الخطبة الوطنية، وكان الجمع حافلا والزحام شديدا وألقى الشيخ مهدي البصير خطبة الحزب الوطني وفيها المطالبة بتعيين وزارة حرة وعقد المجلس التأسيسي والوفاء للعراق بعهود الملك فيصل وكلام إنجلترا ... وفي أثناء الزحام والخطاب جاء سير كوكس للتهنئة فتعذر عليه المرور وسط الزحام، ولذعه أحد العوام بكلمة جارحة اعتبرها المندوب السامي صادرة من الاجتماع كله وموجهة إلى حكومته في ذلك اليوم السعيد وهو ذكرى عيد التتويج وطلب إقالة الأستاذ فهمي المدرس لشبهة أنه مسئول عن هذا الهياج.
وذهب ذلك الرجل الفاضل ضحية هذا الحادث مع أنه لم يفعل أكثر من طاعة أمر مولاه بحضور الاجتماع وسماع الخطاب، ولم تكن له يد في الاجتماع ولا في الكلمة المؤلمة التي جرحت عواطف سير برسي كوكس.
وعقيب ذلك مرض الملك فيصل بالزائدة الدودية واعتكف وتولى سير كوكس حكم العراق بالإرهاب فنفى وطرد من شاء من الزعماء وصادر الأحزاب السياسية، وشاع أن عرش العراق قد بات خاليا بعد العملية الجراحية وتلا ذلك تعطيل بعض الصحف الحرة والقبض على أصحابها ونفي بعض الخطباء والرجال العموميين إلى جزيرة هنجام القاحلة في الخليج الفارسي، ثم أفرج عنهم بعد بضعة أشهر وبعد أن وقعوا على قسم باتباع سياسة الملك فيصل ما عدا الشيخ مهدي البصير الذي تردد وكان آخر من وقع وقد وصف توقيعه بأنه «لطخ صورة العهد بإمضائه وهاجر هنجام».
خطة الاستعمار في الشرق واحدة
وهذه الحادثة السياسية التي انتهت بفشل القائمين بها تبين سياسة الإنجليز في الشرق الإسلامي وغير الإسلامي أفضل بيان، فإنه بعد الثورة المسلحة التي تركوها تأخذ شوطها حتى فنيت قوتها وشالت كفتها حيال ازدياد قوة الإنجليز ورجحان كفتهم؛ حولوا الحاكم العام الذي عاصر الثورة وأتوا بحاكم آخر هو السير كوكس وهو رجل قضى خمسا وأربعين عاما من عمره في الخليج الفارسي وجزيرة العرب والبصرة وبعض ناحيات العراق، ويفهم العربية ويعرف معقولية البلاد وأهلها وله اتصال بالأعيان والأذكياء والزعماء ورؤساء العشائر، وهذا الرجل يكاد يكون ملك العراق قد عرض عليه فأبى، ولكنه نصح للإنجليز أن يجعلوا عليه ملكا عربيا، وهو يظهر اللين تارة والشدة طورا، وقد وعد أهل العراق باسم حكومته بالحرية والاستقلال والمجلس التأسيسي والبرلمان والشعب العراقي يصدق ويؤمن حتى ظنوا أن الانتداب قد زال وأن الاستقلال قد حل، ولكن الوعود لم تنجز فألفوا الأحزاب وكتبوا في الصحف وعقدوا الاجتماعات - صمامة الأمان - فلما زاد الغليان أظهر سير كوكس يده القاتمة واختفى الملك بفعل الزائدة الدودية واستقالت الوزارة وأعلن كوكس أنه انفرد للأسف بحكم العراق. لو غيرنا الأسماء والتواريخ لانطبقت هذه الخطة بعينها على أي بلد وأي قطر من أقطار الشرق، فإنه بعد الثورة المسلحة تتطلع الأمة للعمل السياسي فتؤلف الأحزاب وتنشئ الصحف وتكتب المقالات وتذيع الاحتجاجات، فتمد إنجلترا يدها بهدوء وهي جالسة على «شيزلونج» وتغلق باب الأحزاب وتعطل الصحف وتلتقط بعض الرجال لتسجنهم أو تنفيهم ولا تعيدهم إلا بعد أخذ العهود والوعود بأن لا يعودوا إلى ما كانوا عليه من المطالبة بالوفاء ... ويستريح دماغ إنجلترا بعد ذلك بضع سنين، فإذا عادت الحركة من جديد عادت ومدت يدها، وهكذا.
وفي تلك الفترة أي بعد هدوء عاصفة الأحزاب قام أحمد باشا الصانع وعبد اللطيف باشا المنديل وناجي بك السويدي بطلب انفصال ولاية البصرة عن ولايتي الموصل وبغداد وإلحاق البصرة بالهند وقدموا بذلك مذكرة للسير كوكس.
Shafi da ba'a sani ba