Rayuwar Gabas
حياة الشرق: دوله وشعوبه وماضيه وحاضره
Nau'ikan
وقد روينا في مكان آخر من هذا الكتاب ما كان من شأن فيصل الذي سافر إلى أوروبا وعاد بعد سنتين ملكا على العراق.
ولو رجعنا إلى حقائق الأمور والاستنتاج لرأينا أن الأتراك كانوا معذورين في القيام بالحركة الطورانية، لأنها مغرية ومطابقة للحقائق التاريخية، ولا يلامون على أنهم أرادوا إنعاش جنسهم وإنقاذ إخوانهم في آسيا. ولكن العرب لم يكن لهم عذر في فتنتهم لا سيما وأن الدافع لهم عليها كان مطامع الأجانب المستعمرين الذين كانوا ينصبون الحبائل لدول الإسلام، ولم يكن خافيا على زعماء العرب أن فرنسا وإنجلترا وروسيا كانت متربصة للدولة وكانت تترقب الفرص للبطش بها، ولم يكن رجالها ووسطاؤها وجواسيسها بالغافلين. وقد نبه العرب إلى حقيقة الحال بعض الأفاضل أمثال الأمير شكيب أرسلان الذي كان عضو المبعوثان، وكان على اطلاع مستمر بدخائل السياسة الأوروبية، وقد أنذرهم بأن الفتنة العربية ستؤدي إلى القضاء على الدولة العثمانية. وكان الأتراك لا يألون جهدا في بذل النصح لإخوانهم العرب بعد أن اطلعوا على مقاصدهم، والترك قوم في غاية الذكاء والفطنة وكانوا يعلمون «خائنة الأعين وما تخفي الصدور»، ولكنهم كانوا في السياسة مشربين بالرحمة ويأبون الغدر ويكرهون الخئون.
وكانت كل تلك الحوادث قد سممت عقول العرب وجعلتهم طعاما طيبا لنار الحلفاء، فلما نادى الحسين بالثورة لباه كل عربي في أنحاء البلاد والتفوا حوله لأنهم كانوا يتلمسون علما ينضمون تحته. والخطأ الذي ارتكبه العرب أكبر من الخطأ الذي ارتكبه الأتراك، وكانت نتيجته ضياع دولة العثمانيين وضياع الممالك العربية وفقد استقلالها وتحطيم آمال العرب وخضوعهم للحكم الأجنبي، وبعضهم يظهرون الندم بعد الأوان وبعضهم فاز بثمرة الخيانة.
عندما انتهت الحرب العظمى، وظهرت حقيقة وعود الحلفاء الذين كانوا «يدافعون عن المدنية والحضارة من وحشية الألمان، وأنهم سينهون هذه الحرب بلا ضم ولا غرامة»، وأراد الإنجليز القضاء على البقية الباقية من الدولة العثمانية باقتسام البلاد العربية المتفق على ابتلاعها من عشرين عاما؛ سقطت سورية في أيديهم في أول الأمر بغير حرب ولا ضرب، لأن سورية كانت خالية من وسائل الدفاع ولأن بعض أهاليها ساعدوا الحلفاء على احتلالها، وكان الناس موتورين من الترك بفعل الدعاية الاستعمارية والنعرة العربية، ومخدوعين ببيان الحلفاء ووعودهم وخطب ويلسون ونقاطه الأربع عشرة، وكان الحلفاء فوق هذا مسلحين ولهم قوة عسكرية عظمى.
حسين رشدي باشا ونظرية «الفاتورة»
وقد ثبت لكل ذي عينين أن العرب هم الذين جروا الخراب على الدولة العثمانية ولم يكن دخولها الحرب في صفوف دول الوسط هو السبب، لأنها دخلت الحرب مرغمة وقد اختارت أخف الضررين لتدفع عن نفسها عادية الحلفاء الذين كانوا متآمرين عليها. وقد بلغ من فجور هذه الدول المتحالفة أنها جندت جيوشا من المسلمين في شمال أفريقيا والهند وغيرها قبل إعلان الثورة العربية، لمحاربة تركيا دولة الإسلام العظمى، ولم تثر تلك الجيوش ولم تنشر علم العصيان لأنها كانت مقهورة بحكم الأنظمة العسكرية القاسية. ومما يتمزق له قلب كل مخلص شرقي أن هذه الأمم التعسة التي اشترك جنودها في محاربة الألمان والترك بعد أن رأت ما رأت من انتصار الحلفاء ونكثهم بالوعود وخيانتهم للعهود، قام منهم فريق (وكان بعضه في جريدة عربية) يطالب الحلفاء بالحساب ويقولون لهم نحن ساعدناكم في الحرب وضحينا بمئات الألوف في سبيل قضيتكم فادفعوا لنا الثمن وهو حرية بلادنا، وكان الحلفاء يضحكون من تقديم هذه الفاتورة التي لم تكن في الحسبان، لأنهم يعلمون علم اليقين أن تلك الجيوش الشرقية لم تحارب في صفوفهم مختارة، ولكنها أرادت أن تستخرج نتيجة حسنة من عملية مشئومة ... فلم يعيروها أقل التفات وعاملوا الناطقين بهذا القول معاملة الخادم الذي يقول لمولاه: «كافئني اليوم فإنني أحسنت الكنس والرش ولم أسرق من ثمن اللحم والبقول!»
وكانت هذه النظرية هي التي حاول الاختفاء وراءها حسين رشدي طبوزاده رئيس وزراء مصر الأسبق، فإنه كان يدافع عن نفسه بأنه انتوى أن يمد الإنجليز بالمال (3 ملايين) والرجال (فرقة العمال مليون رجل) ليطالبهم في نهاية الحرب بالحساب! وتفصيل هذا التاريخ معلوم ولا يحتاج إلى تطويل، وقد حكم التاريخ على الرجل حكمه في حياته وقبيل أن يموت بأسابيع فلقي بعض ثمرات ثقته بالحلفاء قبل أن ينطوي في لحده.
على أن الإنجليز لم تقف بهم تلك الحجج الواهية، فإنهم بعد أن احتلوا سورية كلها إلى ولاية أطنة سلموا لبنان وكليكية وساحل سورية لفرنسا، وسلموا دمشق وشرقي الأردن وحلب لفيصل، وقبعوا هم في فلسطين والأراضي المقدسة، ثم نشروا منشورهم الشهير في أواخر أكتوبر سنة 1918 عن إقامة الحكومات الوطنية وتعيين القضاء العادل وإنصاف الرعايا في البلاد «المخطوفة» حديثا، ولم يكن هذا المنشور الذي قابله العرب بالفرح أو بالخيبة إلا مقدمة لمشروع التمزيق والتشتيت والتفريق أو عملية التشريح التي انتواها الحلفاء.
فإن الإنجليز فصلوا فلسطين عن سورية وأنشئوا حكومة صهيونية فيها، فلما احتج العرب من مسلمين ونصارى على هذا العمل قال الإنجليز: إننا لا نفعل أكثر من الوفاء بوعد بلفور الشهير الذي وعد بتأسيس وطن قومي لليهود! ودهش الناس لأن الإنجليز الذين أعطوا لمصر مائة وعد بالجلاء لم ينفذوها وكانت كلها صادرة عمن هم أعظم من بلفور، وفي مقدمتهم الملكة ڤيكتوريا وغلادستون وسالسبوري وغيرهم، ويرجع بعضها إلى سنة 1882، ولم ينقطع سيل تلك الوعود طوال القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، وكان الحزب الوطني لا يفتأ كل عام يذكر الإنجليز بوعودهم، حتى في أيام رئيسه الأخير الأستاذ محمد حافظ رمضان، وقد ألفنا ذلك الأكلشيه الذي يكاد يكون مطبوعا وينتهي دائما بالملحقات، مما كان يضحك بعض الساسة السفهاء وصغار العقول! ولكن الإنجليز بروا بوعد بلفور لا وفاء ولا صدقا ولكن لأن وراءه السادة اليهود خزنة المال وسدنة الإله بعال العظيم!
العراق
Shafi da ba'a sani ba