Rayuwar Gabas
حياة الشرق: دوله وشعوبه وماضيه وحاضره
Nau'ikan
وقد قابلنا من المسلمين الهنود شبانا متعلمين في طريقهم إلى لندن وهم من تلاميذ كلية عليكره التي أسسها السيد أحمد خان، وحادثناهم على انفراد فإذا بعضهم متمسك بالفكرة الإسلامية وحجته في ذلك أن الهنادك قد اضطهدوا المسلمين جملة قرون وقاطعوهم واعتبروهم من الأنجاس تقريبا والذين لا تجوز معاشرتهم، وقد تعطلت مصالح المسلمين في البلاد وزاد جهلهم وصاروا في بلادهم أذلاء، وكان الهندوس يبغضونهم بظن أنهم معادون للوطنية الهندية، فلما ظهر نوابغ من المسلمين ومن الهنادك تمكن الفريقان من جمع الكلمة ولم شمل الفريقين. وأخذ الجميع يعملون للمصلحة المتحدة في الهند وإنجلترا، وعلى رأسهم المغفور له سير أمير علي الذي ألف كتبا جليلة في تاريخ الإسلام والشريعة والحضارة الإسلامية، ومن فضلائهم المرحوم أبو الكلام وسير إقبال وسير شافعي وظفر علي خان وعباس طبيجي.
وممن لقيناهم في العهد الأخير محمد علي جناه وهو محام هندي مسلم متعلم ذكي وسياسي محنك، ويكاد يكون إنجليزي النزعة في هيئته وحديثه وعاداته ولكنه وطني مخلص وهو شديد الحذر سيئ الظن برجال السياسة في الشرق والغرب، ولكنه يتلهب غيرة على بلاده، وهو قليل العلم بأحوال الشرق والإسلام وإن كان قد انقطع لدرس المسألة الهندية. وهذا الرجل وضع منهاجا مؤلفا من أربع عشرة نقطة (تذكرنا بأربع عشرة نقطة وضعها ويلسون منذ أربع عشرة سنة)، ومعظمها خاص بحقوق الانتخاب وامتيازات المسلمين في الولايات التي يكثر عددهم فيها. ومن آرائه التي تلقيناها عنه مباشرة في 12 سبتمبر سنة 1931 أن المسلمين والهنادك لا يجوز لهم أن يذهبوا إلى مؤتمر المائدة المستديرة قبل أن يتفقوا فيما بينهم. وهو قليل الثقة بغاندي ويتهمه بأنه يخدم طبقته وهي طبقة أرباب المتاجر الصغيرة، ولا يظن أن الهند تنال استقلالا على يديه لأنه لابس «لانجوته» أي سراويل قصيرة، إشارة إلى الزي الذي اتخذه غاندي. أما محمد علي جناه نفسه فهو يلبس الملابس الإفرنجية والقبعة الإنجليزية ويدخن الجحشة على طريقة السكسون، وهو يقدر ما حصل عليه الهنود من الإنجليز حتى الآن بثلث حقوقهم وينتظر الحصول على الثلثين الباقيين. وقد علمنا أن محمد علي جناه أشبه الناس في السياسة بالأحرار الدستوريين، وهو زعيم له أنصار من طبقة المتنورين، وهو طبعا يرفض زعامة شوكت علي وأمثاله، لأنه يعتبر نفسه أرقى منه عقلا وعلما ولا يقل عنه إخلاصا وانتسابا للإسلام. وهذا النوع من الرجال نحترمه ونقدره قدره، ولكنه ينفع وطنه بعد حصوله على الاستقلال المنشود، أما الآن فإنه يثير الشكوك وقد يخيب الآمال، لأنه محام حريص أكثر منه زعيما وطنيا، ولعله مساوم أكثر من سياسيا، وقد قيل لنا إنه خطيب قدير بلغته وهو يجيد الإنجليزية.
ولكن ليس بالدرجة التي يجيدها سير محمد إقبال الذي سموه بحق شاعر الهنود المسلمين وفيلسوفهم، فإنه يمثل نوعا آخر من الرجال، فهو كهل في منتصف العقد السادس أسمر اللون حسن التقاطيع سليم القلب صادق النظر، مملوء بالعواطف الكريمة والآمال العالية. وقد تلقى علومه في ألمانيا وفي إنجلترا، واشتغل بالمحاماة والأدب والفلسفة في بلده لاهور. وهذا الرجل كان صديقا حميما لمحمد علي المتوفى في العام الماضي 1931، وكان على ما ظهر لنا لا يحب أن يتحد محمد علي مع غاندي، ولا يزال يجاهر بهذا الرأي لاعتبارات طويلة وجيهة في نظره، ولكنه لا يرفض الاتحاد معه ولا يأبى العمل في كنفه، ولكن له وجهة نظر قد تختلف عن وجهة نظر غاندي.
ويهمني قبل كل شيء أن أقول إنه ليس من نوع شوكت علي وليس على مبادئه ولا علاقة بينهما في شيء، وقد قال لنا: «لقد كان من سوء الحظ أن سافرنا من إنجلترا إلى مصر على مركب واحد.» وقد رأيناه في أثناء إقامته القصيرة في مصر يتهرب من مقابلة الرجل ويحسن التخلص من فرصة الاجتماع به، ويصرح بأنه ليس على رأيه في شيء. وقد نزل في مكان غير الذي نزل به شوكت علي، وسافر بمفرده إلى القدس لحضور المؤتمر، ولم ينضم إلى الرجل المذكور في فكرة أو رأي.
وعندنا أن إقبال من نوع تاغور الشاعر الفيلسوف، وهو مسلم بمعنى الكلمة، ولعله من سلالة الفاتحين، وهو أديب في اللسان الفارسي الذي يتقنه إتقانه للغة الهندوستاني والأوردي، والإنجليزي والألماني، وهو عظيم الأمل في نهضة الإسلام ومستقبله وظهوره بمدنيته ومجده كما كان في سالف الزمان. وهو يرفض الوطنية الجنسية والفكرة القومية ويعتبر الإسلام رابطة ووطنا وجامعة أقوى من كل تلك الروابط. ويقول إن أوروبا أفسدت الشرق بأن أدخلت عليه فكرة الوطنية بالقومية أو بالانتساب إلى بقعة معينة، فإن الشرق تجمعه الروابط الروحية والدينية أكثر من الروابط الأخرى. وقد صرح لنا أنه عندما أراد محمد علي الانضمام إلى غاندي سنة 1922 أو 1923 زاره في لاهور وعرض عليه الفكرة فعارضها إقبال وقدم حججه على رفضها، ولكن محمد علي أصر عليها.
وبعد حين عاد محمد علي إليه وهو مريض قبيل سفره إلى مؤتمر المائدة المستديرة 1931، وقال لإقبال إنه آسف على أنه خالف رأيه وقد رأى خطأه بالاختبار ولكنه يرى نفسه مضطرا للسفر إلى لندن، حيث لقي منيته. وقال إقبال عن نفسه إنه لم يكن سياسيا ولم يكن مشتغلا بالسياسة وكان يعيش دائما بعيدا عن الأوساط السياسية، وهو يحب أن يخدم قومه بالفكر والكتب والفلسفة والشعر، وله نظريات جديدة في تجديد التفكير في الإسلام وفي استنباط أساليب حديثة في الفقه والحديث وعلم الكلام وفتح باب الاجتهاد لأنه عدو للجمود، ويعتقد أن القرآن ينطوي على كل شيء يؤدي إلى تقدم المسلمين ونهوضهم، ويجاهر بأن الإسلام خدم المدنية والإنسانية والعلوم الحديثة. فهو زعيم إسلامي أو مفكر إسلامي من طبقة أرقى من طبقة سيد أمير علي المؤرخ، لأن إقبال ينظر إلى الإسلام باعتباره كائنا حيا قابلا للتطور والتحول نحو التقدم والإصلاح والنهوض بعد الركود والحياة بعد طول الرقاد والمرض. وربما كان هذا النوع من الرجال لا يكترث كثيرا للحياة السياسية العملية، لأنه ليس رجل كفاح فهو لا يحارب الإنجليز جهارا ولا يشهر في وجوههم سلاحا، ويكفي دلالة على ذلك أنه يحمل لقبا من ألقاب شرفهم، ولكن هذا اللقب في اعتقادي لا يقدم ولا يؤخر ولا يقلل من وطنية الرجل فإن كثيرين من الزعماء في الشرق باشوات دون أن يكون لتلك الباشوية أو الميرميرانية شأن في أخلاقهم أو في تقليل وطنيتهم. بيد أننا بعد أن عاشرنا إقبال وأحببناه واحترمناه لا يسعنا إلا الأسف على أن لا يكون لرجل مثله في خدمة بلاده نصيب أكبر، ولعل سياحته الأخيرة في الغرب والشرق تساعده قليلا على الخلاص من موقفه الحالي. ومن أمثاله ذو الفقار علي خان وجاودري ظفر الله خان وشفاعت أحمد خان وسردار سليمان قاسم الحاج ميتا وغيرهم.
ومن الرجال الذين رأيناهم شفيع داودي، وهو محام هندي مسلم وشاعر، وهو شيخ أشيب ولكنه محتفظ بقوة الشباب وحرارته وحياته. وقد كان في اجتماعنا به في نفس الوقت الذي التقينا فيه بمحمد علي جناه تناقض غريب بين ذلك الشيخ الصريح الوطني المخلص الصادق النزعة المتمسك بالزي الشرقي في وقار واحتشام المملوء بالثقة في مستقبل الإسلام الواضح الحديث الجلي الرأي، وبين الكهل النحيف الجاف المتفرنج الذي أخذ يساوم محادثه المصري (وهو دكتور فاضل) وينظر إليه شزرا ولا يبوح له بكلمة إلا إذا استدرجه في عشر كلمات. ولكن شفيع داودي من نوع أصدق معدنا وأرقى جوهرا وهو من مندوبي الشعب، وقد اشتغل بالحركة الوطنية منضما إلى جمعيات الخلافة التي تأسست وتطورت واندثرت ثم بعثت. ولكنها تمثل دائما فكرة واحدة وهي وجود دولة إسلامية قوية ينضوي تحت لوائها جميع شعوب الإسلام، وهي فكرة سليمة في ذاتها وليس عليها غبار ولكن الذي يضعفها ويؤذيها هو دسائس المشتغلين بها وفتنتهم، أمثال شوكت علي الذي تلون وتلوى واتخذ جملة صور وأشكال في بضعة أشهر. فقد كان أول ما رأيناه في تشييع جنازة أخيه محمد علي ودفنه فقد كان وطنيا هنديا مخلصا يقول بقول أخيه الذي انضم إلى مطالب غاندي إلى آخر لحظة من حياته، وسافر من الشرق ونحن نعتقده زعيما عظيما، وما زلنا على اعتقادنا حتى عاد من الهند في صيف عام 1931 يقصد مؤتمر الدائرة المستديرة، فكان أول ما سمعناه منه من الحط من شأن غاندي والتقليل من مكانته في الهند وأوروبا فدهشنا من ذلك وحذر من التصريح بهذا الرأي، ثم ظهر الرجل بمظهر المصلح والموفق بين الأحزاب المصرية فقوبل في بعض الأوساط بالاستهزاء والاحتقار فعذرناه وأعيد له النصح. وجمعنا بينه وبين غاندي على ظهر الباخرة فظهر إخلاص غاندي، وإن كان غاندي ماكرا وماهرا في إخفاء ما يبطن فيجب على الأقل أن ننتهز فرصة ظهوره بالإخلاص لنا والعمل على الاتحاد. ولكن شوكت علي كان يضمر الغل، ولما سافر إلى إنجلترا لم يسمع له صوت في المؤتمر سوى صوت الدسيسة والتفريق، ولا غرابة فقد كان هو وبعض المندوبين الآخرين ضيوفا على حكومة دوننج ستريت ونزلاء سانت جيمس.
ولما عاد من المؤتمر بعد فشله كان من الفرحين بهذا الفشل ومن المباهين بأنه كان من أدوات فشله، وظهر في القدس بمظهر الدساس صاحب الفتن فحارب الاتحاد ونصر الانتداب والاستعمار وتلاعب بالأفكار وتظاهر بجملة ألوان وعند اللزوم بكى بكاء مرا مثل النساء، ووصف المعارضين بأنهم أعظم الشرفاء وخالف أصدقاءه في كثير من الأمور، وانتهت الحال باكتشاف حقيقته وتسجيل فضيحته. والرجل في ظاهره أشبه الناس بصورة سانتا كلوز أو نويل، وهو الشخص الخيالي الذي يمثل الشيخ الذي يأتي للأطفال بالهدايا في عيد الميلاد.
ومن سوء حظ الهندان شوكت علي أو سانتا كلوز الهندي سيعود إليها في عيد الميلاد يحمل في جعبته بدلا من الهدايا بضع مصائب وفتن وحيل دنيئة تؤدي إلى إذلال الهند واعتقال الزعماء وضيعة آمال تلك الأمة العظيمة. وقد لعب الرجل دورا مخزيا وهو دور الخاطب أو الخاطبة بين أميرين من حيدرآباد وأميرتين من سلالة عثمانية، وقال بعضهم إنه يرمي بذلك إلى تجهيز سلالة جديدة تتولى الخلافة الإسلامية تحت إشراف سادته الإنجليز لا حقق الله له أملا ولا أسعده برؤية هذا البلاء! وترى هذا الرجل الغريب الأطوار يحيط نفسه في حله وترحاله ب «زيطة وزنبليطة» من الإعلان عن نفسه في الصحف ونشر الإشاعات الكاذبة عن حركاته وسكناته كأنه يقول إنه سيقابل الملوك والأمراء والوزراء والبابا وشيخ الإسلام ومصطفى كمال والخليفة المعزول في سياحة واحدة! كما يصنع سائح إنجليزي في زيارة الآثار! وشوكت لا يبالي بالتناقض في خططه ولا بالشخصيات التي يجمع بينها في رحلة واحدة. ونحن نمحو هنا كل ما أثبتناه في هذا الكتاب من الثناء عليه مما كتبناه عنه عقيب وفاة أخيه فقد كنا كغيرنا نحسن الظن به، ولكن هذا الظن الحسن لم تطل مدته وقد أبقينا ما كتبناه في فترة انخداعنا به ليكون حجة عليه وعلى أمثاله في تقلبهم وتلاعبهم. وقد أشاع بعد عودته من القدس كعادته أن سيقابل «فلان وعلان وترتان» وأنه ذاهب إلى بلاد اليمن تلبية لدعوة الإمام يحيى خليفة اليمن،
2
Shafi da ba'a sani ba