أجابت الآنسة فاريس بلهجة حازمة: «ستة: «زمار هاملين»، و«أميرة الغجر»، و«التاج المسروق»، و«الفارس العربي»، و«راقصي كيري»، و«ابنة الحطاب». وعندما يحين موعد إعادة إحداها يكون لدينا مجموعة جديدة من المؤدين نختار من بينهم، ونبتهل إلى السماء أن يكون الجمهور قد نسي المرة السابقة.» التقطت عباءة مخملية سوداء اللون مبطنة باللون الأحمر، ونفضت عنها الغبار ثم وضعتها على كتفيها قائلة: «هل تذكرون؟ هذا ما ارتداه بييرس موراي حين لعب دور الكابتن في «أميرة الغجر». كلا بالطبع لا تذكرون، كان هذا في عام 1937، وبعدها قتل، كان في القوات الجوية.» لكنها قالت هذا الجزء دون اكتراث؛ فبعد أن أدى دور الكابتن في «أميرة الغجر» هل يهم ما حدث له بعدها؟ «وفي كل مرة كان يرتدي هذا المعطف كان يتمايل - هكذا - مظهرا بطانته.» قالتها وهي تميل بخيلاء مقلدة ما كان يفعله. كانت كل تعليماتها المسرحية وتعليماتها في الرقصات مبهرة ومبالغا فيها بشكل كبير ومتعمد، كما لو كانت تريد أن تدهشنا لدرجة أن ننسى ذواتنا. وكانت تكيل لنا الإهانات فقالت إننا نرقص كأناس في الخمسين من عمرهم مصابين بالتهابات المفاصل، وقالت إنها ستضع مفرقعات نارية في أحذيتنا، لكنها كانت تحوم حولنا طوال الوقت كما لو أن بداخلنا إمكانات رقص جميل متقدة، وكأنها قادرة على أن تخرج من داخلنا ما لا يستطيع غيرها اكتشافه، بل وحتى ما لا نعرف نحن أننا نمتلكه.
ثم دخل السيد بويس كي يأخذ جهاز التسجيل الذي كان يعلم فرانك ويلز تشغيله، ورأى حركة التمايل التي كانت تؤديها.
فقال بدهشته الإنجليزية المعهودة التي تنم عن تحكم كامل بالذات: «كون بريو يا آنسة فاريس، كون بريو (أي بحماس وحيوية باللغة الفرنسية).»
انحنت الآنسة فاريس بلباقة لتكمل حالة التمايل، وأفسحنا نحن المجال لها لتفعل ذلك، بل إننا في تلك اللحظة تفهمنا أن حمرة الخجل التي امتصت حمرة أدوات التجميل كضوء الشمس لم تكن تمت بصلة للسيد بويس، وإنما مردها إلى المتعة التي تجدها في حركتها. ولكننا توقفنا عند «كون بريو» وقررنا أن نخبر الآخرين بها، لم نكن نعلم ماذا تعني ولم نكترث لأن نعرف، كل ما كان يهمنا أنها كلمة سخيفة؛ فكل الكلمات الأجنبية في حد ذاتها سخيفة وتنتشر كالنار في الهشيم. بعد ذلك عرفنا مدى ملاءمتها. فلفترة طويلة بعد انتهاء الأوبريت لم تكن الآنسة فاريس تسير في رواق المدرسة، ولم تكن تمر بنا في طريقها إلى أعلى هضبة جون ستريت وهي تغني بخفة مشجعة نفسها كعادتها وتلقي تحية الصباح، دون أن تسمع هذه العبارة تتردد بمكر بجوارها. شعرنا أن هذه هي الضربة القاصمة لها؛ فقد كانت تجعلها تستشيط غضبا.
بدأنا نذهب إلى دار البلدية لنتدرب هناك، كانت قاعة البلدية ضخمة ومفتوحة تكثر بها تيارات الهواء كما أتذكر، وكانت ستائر خشبة المسرح مخملية قديمة لونها أزرق داكن ومؤطرة بأهداب ذهبية رائعة، كما أتذكر. كانت المصابيح مضاءة في تلك الأيام الشتوية المظلمة، ولكن ليس على طول الممر المؤدي إلى نهاية القاعة؛ حيث كانت الآنسة فاريس أحيانا تقف بحيث لا نراها وتصيح: «لا أسمع كلمة هنا! لا أسمع ما تقولون! مم تخافون؟ هل تريدون أن يصيح الجالسون في الصفوف الخلفية مطالبين باسترداد نقودهم؟»
كانت الآنسة فاريس على وشك أن يتملكها اليأس، وكانت طوال الوقت في يدها شيء ما تحيكه. وذات يوم أشارت إلي وأعطتني قطعة من جديلة ذهبية كانت تخيطها على قبعة العمدة المخملية، وطلبت مني أن أذهب إلى متجر ووكر لأحضر ربع ياردة تتناسق معها. كانت ترتجف، وأخذت همهمتها تصبح أكثر وضوحا وقالت: «لا تتأخري.» قالتها كما لو أنها ترسلني كي آتيها بدواء ضروري أو برسالة يمكن أن تنقذ جيشا. لذا غادرت مسرعة مرتدية معطفي دون أن أغلق أزراره إلى شوارع مدينة جوبيلي الصامتة، البيضاء بلون الصوف الأبيض، بعد أن غطت الثلوج التي انهمرت حديثا المدينة، وبدا مسرح دار البلدية ورائي مشرقا كمشعل متقد بحماسة الإخلاص الشديد. إخلاص لصناعة ما هو غير حقيقي، ما لم يكن ضروريا بصورة واضحة، لكنه كان أكثر أهمية - بمجرد أن نؤمن به - من أي شيء آخر لدينا.
وبعد أن حررني الأوبريت من روتين حياتنا اليومية، وبعد أن أصبحت أتذكر الفصل - حيث كان السيد ماكينا يواصل منافسات التهجية والحسابات العقلية مع أولئك الذين لم يقع عليهم الاختيار - بأنه مكان حزين وكئيب تركته خلفي، شعرت أننا جميعا صرنا حلفاء الآنسة فاريس. كنا نجمع أدوارنا المنفصلة في الأوبريت جنبا إلى جنب ونراها تتحول إلى كيان متكامل. وكانت قصة الأوبريت تثير مشاعري ولا تزال؛ فكنت أفكر في مدى قوة واختلاف وعجز وتراجيدية شخصية زمار هاملين. لم تكن الخيانة تفاجئه حقا، وبعد أن خارت قواه من استغلال العالم له، استطاع - على غرار همفري بوجارت - الحفاظ على نبله وشرفه بعد أن أصابهما الإرهاق والوهن. بل وحتى انتقامه (الذي أفسده تغيير نهاية القصة طبعا) لم تكن تفوح منه رائحة الحقد، وإنما كان أقرب إلى الرفق؛ انتقام رقيق ومروع هدفه تحقيق العدالة الكبرى. شعرت أن فرانك ويلز - ذاك المتهجي الذي لا سبيل لتعليمه - تقمص دوره بسهولة وبشكل طبيعي دون أدنى محاولة للتمثيل. فكان كل يوم يحمل معه تحفظه ولامبالاته إلى خشبة المسرح، وكان هذا هو الصواب. وقد تأملت ملامحه للمرة الأولى لأرى كيف يبدو، فكان رأسه طويلا ونحيلا، وشعره أسود قصيرا مجعدا وكثيفا، ووجهه يغلب عليه الحزن - رغم أنه قد يتضح أنه وجه شخصية كوميدية، لكن ليس في هذه الحالة - به ندوب من أثر حبوب قديمة، وحبة جديدة بدأت تظهر في مؤخرة عنقه. كان جسده نحيلا كوجهه، وارتفاعه كان مناسبا لصبي في صفنا - أي إنه أقصر مني بأقل من بوصة - وكانت مشيته سريعة وعفوية، مشية شخص لا يحتاج لا إلى جذب اهتمام الناس أو دفعه بعيدا. كل يوم كان يرتدي سترة ذات لون رمادي يميل إلى الزرقة مرقعة عند الكوعين، وقد بدا لي هذا اللون الدخاني العادي المتحفظ الغامض هو لون شخصيته، لون ذاته.
لكنني كنت أحبه، أحب شخصية زمار هاملين، وأحب شخصية فرانك ويلز.
وهكذا لم أتمالك نفسي، وكنت بحاجة لأن أتحدث عنه مع أي شخص؛ لذا تحدثت مع أمي متصنعة الموضوعية والنقد. «صوته جيد، لكنه ليس طويلا بما يكفي، لا أظنه سيكون مميزا على خشبة المسرح.» «ما اسمه؟ ويلز؟ أهو ابن تلك السيدة التي تبيع مشدات الخصر؟ كنت أبتاع مشداتي من السيدة ويلز، كان لديها أنحف مقاس، لكنه لم يعد لديها منه الآن. كانت تقطن في شارع بيجز بعد محل الألبان.» «لا بد أنها والدته.» كنت متحمسة بصورة غريبة لفكرة أن هناك حلقة وصل بين أسرة فرانك ويلز وأسرتي، بين حياته وحياتي، فسألت أمي: «هل ذهبت إلى منزلها؟ هل أتت هي إلى هنا؟» «ذهبت أنا إلى منزلها، فلا بد لمن أراد الشراء أن يذهب إلى هناك.»
أردت أن أسألها عن شكل المنزل: هل من صور في غرفة الاستقبال؟ عم تكلمت أمه؟ هل جاءت على ذكر أطفالها؟ كان أملا مبالغا فيه أن تكونا قد صارتا صديقتين، وأن تكونا قد تحدثتا عن أسرتيهما، وأنه في تلك الليلة على مائدة العشاء تكون السيدة ويلز قد قالت: «جاءتنا اليوم سيدة لطيفة لتضبط مقاس مشدات خصرها وقالت: إن لها ابنة في الفصل نفسه معك في المدرسة ...» فيم سيفيد هذا؟ أن يذكر اسمي على مسمع منه وأن تتراءى صورتي أمامه.
Shafi da ba'a sani ba