كانت تحيك كل ملابسها بنفسها، فترتدي ملابس مرتفعة الرقبة بأكمام طويلة محتشمة، أو أردية قروية ذات أربطة وأشرطة، أو أثوابا مكشكشة ذات أشرطة تحت الذقن وعند الأساور، أو ملابس ذات أزرار لامعة جريئة عليها مرايا صغيرة. كان الناس يسخرون منها لكن ليس كثيرا، كما لو كانت لم تولد في جوبيلي. قال فيرن دوجرتي، مستأجر لدى أمي: «يا لتلك المسكينة! إنها فقط تحاول أن تصطاد رجلا، إنني أرى أن من حق كل امرأة أن تفعل هذا بطريقتها الخاصة.»
إذا كانت تلك طريقتها، فقد باءت بفشل ذريع؛ ففي كل عام تتواتر أخبار عن علاقة عاطفية - أو فضيحة - بينها وبين السيد بويس، ويكون ذلك أثناء التحضيرات للأوبريت. يزعم الناس أنهما شوهدا ملتصقين ببعضهما على كرسي البيانو، وقدمه تكز قدمها على الدواسة، وأن هناك من سمعه يناديها إلينور. غير أن كل تلك التلفيقات المبالغ فيها تتداعى عندما ينظر المرء إلى وجهها الضئيل ذي العظام البارزة، والذي تزينه بمستحضرات التجميل والنقطتين اللامعتين في زاويتي فمها وعينيها اللامعتين الواسعتين. أيا ما كان الذي تسعى وراءه فلا يمكن أن يكون السيد بويس، بل وبغض النظر عما قاله فيرن دوجرتي، لا يمكن أن يكون هدفها هو الرجال من الأساس.
كان شغفها الحقيقي هو الأوبريت، هو ما يأسر كيانها ويسيطر على كل مشاعرها في المقام الأول، عندما حضرت مع السيد بويس إلى فصلنا نحو الساعة الثانية ظهرا وكان الجو ضبابيا تنهمر فيه الثلوج، وكنا ننقل المكتوب على السبورة ونحن شبه نائمين وكل شيء حولنا شديد الهدوء، حتى إنه بإمكان المرء أن يسمع الخرير الصادر عن أنابيب المياه المطمورة بعمق في داخل المبنى. وفي صوت هامس، طلبت من الجميع أن ينهضوا ويغنوا في حين بدأ السيد بويس يعزف النوتة الموسيقية :
هل تعرفون جون بيل ذا المعطف الزاهي؟
هل تعرفون جون بيل وقت الفجر؟
هل تعرفون جون بيل عندما يكون بعيدا جدا
مع حصانه وكلابه وقت شروق الشمس؟
أما معلمنا السيد ماكينا - وهو ناظر المدرسة أيضا - فقد عبر عن رأيه فيما يحدث بأن استمر في الكتابة على السبورة، فأخذ يكتب: «كان وادي النيل محصنا ضد الغزو بالصحراوات الثلاث التي تحيط به: الصحراء الليبية، والصحراء النوبية، والصحراء العربية.» لكن ما فعله لم يكن أمرا ذا بال، ففي النهاية لن يجدي ذلك نفعا، وستظل نغمات الأوبريت تتصاعد وتتصاعد، وستزيح كل قواعده وتقسيماته للوقت، كما تزاح الأسياج المصنوعة من عيدان الثقاب. كم كان السيد بويس والآنسة فاريس لبقين في هذه اللحظة؛ إذ كانا يتحركان على أطراف أصابعهما في أرجاء الفصل بشكل احتفالي ورأساهما مائلان لتمييز الأصوات المنفردة. لكن لن يدوم هذا طويلا؛ فالأوبريت بأكمله الآن محصور فيهما، لكن حين يحين الوقت المناسب سوف يطلقان سراحه، سوف ينتفخ كبالون السيرك، وسيكون علينا جميعا أن نتمسك جيدا!
ثم أشارا برفق لبعض الطلاب أن يجلسوا، وكنت أنا منهم، وكذلك ناعومي، وقد أسرني هذا في الحقيقة. كما طلبا من بعض الطلاب أن يغنوا من جديد، وأومآ للطلاب الذين أرادا لهم أن يخرجوا من الصف.
كان توزيع الأدوار في الأوبريت أمرا غير متوقع؛ تتراوح الأدوار فيه ما بين حمل أكاليل زهر الخشخاش إلى النصب التذكاري في ذكرى الاحتفال بيوم الهدنة، إلى إذاعة برنامج الصليب الأحمر للصغار، إلى حمل الملاحظات من معلم لآخر عبر الأروقة الخاوية على نحو غير معتاد. وبإمكان المرء أن يعرف مسبقا من الذين سيتم اختيارهم معظم الوقت، ومن الذين سيتم اختيارهم في بعض الأحيان، ومن الذين لن يتم اختيارهم قط تحت أي ظرف من الظروف. وعلى رأس القائمة كانت مارجوري كوتس التي كان والدها محاميا وعضوا في المجلس التشريعي المحلي، وجوين موندي التي يعمل والدها متعهدا ومالكا لمتجر أثاث. لم يكن أحد ليعترض على اختيارهما، بل إننا حين أقيمت انتخابات حرة لاختيار مسئولي برنامج الصليب الأحمر الصغار ، اخترناهما بأنفسنا دون تردد بدافع حس رفيع لتمييز ما هو مناسب. فعلاقاتهما الطيبة التي استمرت لسنوات مع من حولهما في البلدة وفي المدرسة جعلت منهما الاختيار الأنسب؛ فهما تتمتعان بخصال الثقة في النفس والدبلوماسية والكتمان والطيبة. أما أولئك الذين ليسوا أهلا للثقة ويتحولون إلى الديكتاتورية عندما يتولون مهمة ما، أو الذين يتعثرون في الطريق إلى النصب التذكاري، أو من قد يقرءون ملاحظات المعلمين في الأروقة على أمل أن يجدوا بها ما يمكن الوشاية به، هم من كان يقع عليهم الاختيار أحيانا؛ وكذلك الطموحون وغير الواثقين مثل ألما كودي - التي كانت متخصصة في المعلومات الجنسية - ومثلي أنا وناعومي.
Shafi da ba'a sani ba