ولكنه كان منزلا ينتمي للمدينة، فكان يوحي بالرفاهية والجو الرسمي بطريقة لم تكن متاحة في طريق فلاتس. كنت أحيانا أفكر في منزلنا القديم، وواجهته القديمة الشاحبة، والمصطبة الإسمنتية خارج باب المطبخ، ويراودني شعور بالذنب واهن وبائس، وأشعر بألم خفيف كالذي يشعر به المرء عند التفكير في جد بسيط عجوز أصبح أكبر من أن يستمتع بألعابه. كنت أفتقد التواجد بالقرب من النهر والمستنقع والفوضى الحقيقية في الشتاء والعواصف الثلجية التي تقيد حركتنا في منزلنا كما لو كان سفينة نوح. ولكنني كنت أحب النظام والترتيب المعقد لحياة المدينة التي لا يمكن إلا لشخص من خارجها أن يراها. وفي طريق العودة من المدرسة إلى المنزل في عصر أيام الشتاء، كنت أشعر بالمدينة كلها حولي، كل الشوارع التي تحمل أسماء شارع ريفر وشارع ميسون وشارع جون وشارع فيكتوريا وشارع هورون - ومن الغريب أيضا شارع الخرطوم - وفساتين المساء شفافة وشاحبة كالزعفران في نافذة متجر كرال لملابس السيدات، وفرقة «الرسالة المعمدانية» في قبو كنيستهم يغنون «ثمة اسم جديد مكتوب في كتاب المجد، وهو اسمي أنا، اسمي أنا، اسمي أنا!» وعصافير الكناريا في أقفاصها في متجر سيلرايت، والكتب في المكتبة، والبريد في مكتب البريد، وصور أوليفيا دي هافيلاند وإيرول فلين يرتديان ثياب القرصان والمرأة الأرستقراطية خارج مسرح الليسيوم؛ كانت كل تلك الأشياء والطقوس ووسائل التسلية - سواء ضعيفة أم مبهجة - منسوجة معا تمثل المدينة! في المدينة ثمة جنود في إجازة في زيهم الرسمي ذي اللون الكاكي، الذي يوحي بوحشية مجهولة كرائحة الحريق. وكان ثمة فتيات جميلات مشرقات يعرف الجميع أسماءهن - مارجريت بوند ودوروثي جيست وبات موندي - بينما لا يعرفن هن أسماء أحد عدا من يخترن أن يعرفن اسمه. كنت أراقبهن وهن يهبطن التل عائدات من المدرسة الثانوية مرتديات أحذية مخملية ذات رقبة طويلة مزينة بالفراء. كن يتنقلن في مجموعة صغيرة تتألق كمصباح ليلي يعمي أعينهن عن العالم من حولهن. ورغم ذلك، ذات مرة ابتسمت لي إحداهن - وهي بات موندي - أثناء مرورها، فاستغرقت في أحلام اليقظة بشأنها؛ فتخيلت أنها أنقذتني من الغرق، وأنها أصبحت ممرضة وأخذت تعتني بي مخاطرة بحياتها وهي تهدهدني بين ذراعيها الناعمتين عندما كدت أهلك بالديفتيريا.
في عصر أيام الأربعاء تكون فيرن دوجرتي - مستأجرة لدى أمي - في المنزل تحتسي الشاي وتدخن وتتحدث مع أمي في غرفة الطعام. كانت فيرن تتحدث بصوت منخفض، وكانت تتجول وتتأوه وتضحك في مقابل تعليقات أمي المقتصدة والأكثر ذكاء. كانتا تحكيان قصصا عن الناس في المدينة وعن نفسيهما، وكان حديثهما نهرا لا ينضب. إنها الدراما، إنها إكسير الحياة الذي لا أستطيع الوصول إليه. كنت أذهب إلى المرآة المقعرة في نضد المائدة المبني في الجدار وأنظر إلى انعكاس الغرفة، إلى الألواح الخشبية الداكنة والأنوار المعتمة والمصباح النحاسي المثبت وكأنه شجرة تنمو في الاتجاه الخاطئ، بها خمسة فروع منحنية متيبسة وتنتهي بأزهار زجاجية. ومن خلال النظر إليهما في بقعة محددة في المرآة، كان بإمكاني أن أجعل أمي وفيرن دوجرتي تتحركان كشرائط من المطاط متمايلتين مصابتين بالهستيريا، وكان بإمكاني أن أجعل وجهي يتدلى بشكل رهيب على جانب واحد كما لو كنت قد أصبت بجلطة.
قلت لأمي: «لم لم تحضري تلك الصورة؟» «أية صورة؟ أية صورة؟» «الصورة التي فوق الأريكة.»
لأنني كنت أفكر - على فترات متقاربة كان علي أن أفكر - في مطبخنا القديم في المزرعة، حيث ربما كان أبي والعم بيني في ذلك الوقت يقومان بقلي البطاطس للعشاء في مقلاة غير مغسولة (فلم يغسلان الدهون المفيدة؟) والقفازات والأوشحة معلقة كي تجف أعلى الموقد. وكلبنا ميجور - الذي لم يكن مسموحا له بدخول المنزل أثناء فترة سيطرة أمي - نائم على المشمع القذر أمام الباب، وأوراق الصحف مفروشة على المائدة بدلا من مفرش، والبطاطين محملة بشعر الكلاب على الأريكة، والبنادق وأحذية الجليد وأحواض الغسيل معلقة على الحائط. إنها رفاهية العزاب ذات الرائحة الكريهة. وأعلى الأريكة ثمة لوحة رسمتها أمي في الأيام الخوالي، في الأيام الأولى لزواجها التي ربما كانت تحفل بالترف والإشراق والحب؛ تصور طريقا حجريا، ونهرا بين الجبال، وقطيعا من الخراف تقوده عبر الطريق فتاة صغيرة ترتدي شالا أحمر. كانت الجبال والخراف تشبه بعضها البعض، متكتلة وتشبه الصوف وذات لون رمادي مائل إلى الأرجواني. وفي الماضي، كنت أعتقد أن الفتاة الصغيرة هي أمي بالفعل، وأن تلك هي القرية الموحشة التي قضت فيها طفولتها وشبابها، ثم عرفت بعد ذلك أنها قد نقلت ذلك المشهد من مجلة «ناشيونال جيوجرافيك». «تلك اللوحة؟ أتريدينها هنا؟»
لم أكن أريدها في حقيقة الأمر، ففي أغلب محادثاتنا كنت أحاول إغواءها للحصول على الإجابة أو للبوح بالسر الذي أرغب في معرفته. كنت أريدها أن تقول إنها قد تركتها لأبي، فأنا أذكر أنها قالت ذات مرة إنها قد رسمتها من أجله، فقد كان هو من أحب ذلك المشهد.
قالت: «لا أريدها معلقة حيث يراها الناس، فلست فنانة، ولكنني رسمتها لأنني لم يكن لدي ما أفعله فحسب.»
أقامت أمي حفلة للسيدات دعت إليها السيدة كوتس - والتي يطلق عليها أحيانا السيدة كوتس زوجة المحامي - والسيدة بيست - التي يعمل زوجها مديرا لبنك التجارة - والعديد من السيدات الأخريات اللائي لم تتخط معرفتها بهن التحية في الشارع، وكذلك بعض الجيران وزميلات فيرن دوجرتي في مكتب البريد، وبالطبع العمة إلسبيث والعمة جريس. (وقد طلبت منهما أن تصنعا فطائر الدجاج بالقشدة وفطائر الليمون وكعك التمر والشوفان، وقامتا بذلك بالفعل). كان كل شيء في الحفل مخططا سلفا، وفور أن وصلت السيدات إلى القاعة الأمامية كان عليهن أن يحزرن عدد حبات الفول في البرطمان ويكتبن تخمينهن في ورقة. واستمرت الأمسية بألعاب التخمين واختبارات للمعرفة وضعت بالاستعانة بالموسوعة، وألعاب تمثيلية تخمينية لم تمض بصورة صحيحة؛ لأن العديد من السيدات لم يفهمن كيفية اللعب وكن شديدات الخجل، وألعاب بالورق والقلم؛ تكتب فيها المشتركات اسم رجل وتطوي الورقة ثم تمررها، ثم تكتب فعلا وتطوي الورقة، ثم اسم سيدة وهكذا، وفي نهاية اللعبة تفتح جميع الأوراق وتقرأ بصوت عال. كنت أرتدي تنورة صوفية قرنفلية اللون وسترة قصيرة وأوزع المكسرات على الحضور مبتهجة.
انشغلت العمة إلسبيث والعمة جريس في المطبخ وهما تبتسمان وتشعران بالإهانة. وكانت أمي ترتدي فستانا أحمر اللون شبه شفاف مغطى بأزهار الثالوث الصغيرة السوداء والزرقاء التي تشبه التطريز. همست العمة إلسبيث في أذني قائلة: «ظننا أن ما على الفستان خنافس، فجفلنا برهة!» وبعد ذلك بدا لي أن الحفل أقل جمالا مما ظننت، ولاحظت وجود سيدات لم يشتركن في أي من الألعاب، وأن وجه أمي كان شديد الانفعال والإثارة وصوتها مليئا بالحماس التنظيمي، وأنها عندما عزفت على البيانو وغنت فيرن دوجرتي - التي درست الغناء - أغنية «ماذا تساوي الحياة دون حبيبي؟» كانت السيدات يسيطرن على مشاعرهن ويصفقن بتحفظ كما لو كان ذلك نوع من الاستعراض.
وظلت العمة جريس والعمة إلسبيث تقولان لي بين حين وآخر على مدار العام التالي: «كيف حال تلك السيدة المستأجرة؟ كيف هي حياتها بدون حبيبها؟» وكنت أوضح لهما أنها مجرد أغنية مترجمة من أوبرا، فكانتا تصيحان: «يا للهول، حقا؟ لقد كنا نشعر بالأسى من أجلها طوال الوقت!»
كانت أمي تأمل في أن حفلها سوف يشجع السيدات الأخريات على إقامة حفلات مماثلة، ولكن ذلك لم يحدث، أو إذا كان قد حدث، فإننا لم نسمع به قط، بل ظللن يقمن حفلات لعب الورق التي ترى أمي أنها سخيفة متعجرفة، وهكذا فقد فقدت الأمل في الحياة الاجتماعية تدريجيا، وقالت إن السيدة كوتس امرأة غبية لم تكن متأكدة في إحدى المسابقات من هو يوليوس قيصر، فقد ظنت أنه إغريقي، وكانت ترتكب أيضا أخطاء نحوية من ذلك النوع من الأخطاء الشائعة بين أبناء الطبقة التي تظن نفسها أرستقراطية.
Shafi da ba'a sani ba