كان المنزل مليئا بالأشخاص المتزاحمين، ملتحمين كأقلام الرصاص القديمة غير الحادة يغنون في انصياع، وكنت أشعر أني أقف وسطهم رغم كوني محبوسة وحدي هنا. وسوف يتذكر معظمهم طوال حياتهم أنني قد عضضت ذراع ماري آجنس أوليفانت في جنازة العم كريج، وهكذا سوف يتذكرون أنني كنت شديدة العصبية غريبة الأطوار أو سيئة التربية أو حالة يصعب تصنيفها. ولكن تصنيفي لن يخرج عن هذا، كلا، سوف أصبح «فرد العائلة» الشديد العصبية الغريب الأطوار السيئ التربية، وهذا أمر مختلف تماما.
إن الحصول على السماح يخلق نوعا غريبا من الشعور بالخزي. شعرت بالحر، ليس بسبب البطانية فحسب، بل شعرت أنني مقيدة ومختنقة كما لو كنت أتحرك وأتحدث لا من خلال الهواء بل من خلال وسط سميك كالقطن. كان ذلك الشعور بالخزي جسديا، ولكنه يفوق الخزي الجنسي كثيرا - شعوري السابق بالخزي من العري - فالآن لم يكن الأمر مجرد جسد عار فحسب، بل بدا وكأن كل الأعضاء الداخلية - كالمعدة والقلب والرئتين والكبد - ترقد مكشوفة وعاجزة. وأقرب شعور مررت به في حياتي لهذا الشعور هو ما شعرت به عندما كنت أتعرض للدغدغة بصورة تفوق قدرتي على الاحتمال، وهو شعور حسي رهيب بالافتضاح والعجز وخيانة الذات. وقد امتد ذلك الشعور بالخزي مني ليغمر كل أنحاء المنزل ويغطي الجميع، حتى ماري آجنس، وحتى العم كريج في حالة الاستسلام المنبوذة الراهنة. أن تكون بشرا من لحم ودم ما هو إلا نوع من الإذلال. وهكذا، تملكت حواسي رؤيا هي النقيض تماما من رؤيا المتصوف عن الضوء والنظام التي يتعذر التعبير عنها، رؤيا - يتعذر التعبير عنها هي الأخرى - عن الاضطراب والبذاءة، رؤيا عن العجز الذي تجلى لي في أفظع صورة ممكنة. ولكن على غرار النوع الآخر من الرؤى، لم تستمر تلك الرؤيا إلا للحظة أو اثنتين، ثم انهارت من شدتها، ولم أتمكن من إعادة بنائها أو حتى تصديقها، فور أن انتهت. وعندما شرعوا في إنشاد الترنيمة الأخيرة في الجنازة كنت قد استعدت نفسي، ولم يكن بي سوى الضعف الطبيعي الذي يشعر به أي شخص بعد قيامه بعض ذراع آدمية، واستعاد الآباء المؤسسون للاتحاد الكونفدرالي الموجودون أمامي ثيابهم ووقارهم، وانتهيت من احتساء كوب الشاي وأنا أستكشف طعمه غير المألوف شديد الأهمية في عالم الكبار.
نهضت وفتحت الباب ببطء، وكان بابا الغرفة الأمامية مفتوحين، والناس يتحركون ببطء، وظهورهم المحنية التي توحي بالقلق تبتعد عني.
يا يسوع ناد علينا فوق اضطراب
بحر حياتنا الهائج.
دخلت الغرفة دون أن يلاحظني أحد وأقحمت نفسي في الصف أمام سيدة طيبة لا تعرفني تفوح منها رائحة العرق، وانحنت هامسة لي بأسلوب مشجع: «لقد أتيت في اللحظة المناسبة لإلقاء نظرة الوداع .»
كانت جميع الستائر مسدلة لإبعاد شمس ما بعد الظهيرة، وكانت الغرفة حارة كئيبة، تخترقها أسهم متفرقة من الضوء وكأنها مخزن للتبن في ظهيرة يوم شديد الحرارة. كانت رائحة المكان تعبق بالزنابق البيضاء اللينة، وكانت رائحته كالقبو كذلك. تقدمت للأمام بفعل دفع الآخرين حتى وصلت إلى جانب النعش الذي كان موضوعا أمام المدفأة، تلك المدفأة الجميلة التي لا تستخدم أبدا ذات الأحجار المغطاة بالشمع كالزمرد. وكان داخل النعش مغطى بالساتان الأبيض المطوي كأفخم الثياب، وكان النصف السفلي من جسد العم كريج مغطى بغطاء لامع، أما النصف العلوي من الأكتاف وحتى الخصر فكان مختبئا تحت الزنابق. وبالمقارنة بكل هذا البياض الذي يحيط به، بدا وجهه نحاسي اللون تعلوه نظرة ازدرائية. لم يبد نائما، ولم يبد على الإطلاق كما وجدته عندما دخلت إلى مكتبه ذات مرة كي أوقظه بعد ظهيرة أحد أيام الأحد. فقد استقرت جفونه برفق على عينيه، وأصبحت التجاعيد في وجهه شديدة السطحية، وهو نفسه بدا ممحوا، فهذا الوجه كان بمثابة قناع رقيق من الجلد مطلي وملقى فوق الوجه الحقيقي، أو فوق خواء مستعد لأن ينهار إذا وخزته بإصبعك. انتابتني تلك الرغبة، ولكن على مستوى أبعد ما يكون عن إمكانية التنفيذ، كما قد تنتابك الرغبة في الإمساك بسلك كهربائي. وهكذا كان العم كريج - الراقد تحت الزنابق على وسادته المصنوعة من الساتان - بمثابة الناقل الرهيب الصامت، غير المبالي لقوى قد تشتعل في لحظة وتحرق الواقع بأكمله في أرجاء تلك الغرفة، تاركة إيانا في ظلام دامس. استدرت بعيدا وفي أذني طنين، ولكنني شعرت بالراحة والسعادة؛ لأنني أقدمت على تلك الخطوة في نهاية المطاف ونجوت منها، وأخذت أشق طريقي عبر الغرفة المزدحمة التي ينبعث منها الغناء متجهة نحو أمي التي كانت تجلس وحدها بجوار النافذة، فقد كان أبي مع حاملي النعش الآخرين، ولم تكن تغني بل كانت تعض شفتيها وتبدو متفائلة بصورة سخيفة. •••
وبعد ذلك قامت العمة إلسبيث والعمة جريس ببيع المنزل في جنكينز بيند والأرض والأبقار، وانتقلتا للعيش في جوبيلي. وقالتا إنهما اختارتا جوبيلي - وليس بلو ريفر حيث تعرفان أناسا أكثر أو بورترفيلد حيث تعيش العمة مويرا - لأنهما ترغبان في تقديم العون قدر استطاعتهما لأبي وعائلته، وبالفعل كانتا تجلسان في منزلهما الذي يقع أعلى تل في الطرف الشمالي من المدينة كحارستين مشدوهتين جريحتين، ولكن تشعران بالواجب تجاهنا وتسهران على راحتنا، وإن كانت حياتنا بالنسبة لهم مثيرة للشكوك. كانتا ترتقان جوارب أبي الذي اعتاد أن يأخذها إليهما، وكانت لديهما حديقة أيضا وتصنعان لنا المخللات، وكانتا تقومان بأعمال الإصلاحات والحياكة والخبز لنا. كنت أزورهما مرة أو اثنتين في الأسبوع، وفي بادئ الأمر كان ذلك عن طيب خاطر مني، وهو ما يرجع جزئيا إلى الطعام، ولكن مع التحاقي بالمدرسة الثانوية بدأت أزورهما على مضض، وفي كل مرة أزورهما، تقولان: «ما الذي أخرك هكذا؟ إنك الغريبة هنا!» وكانتا تجلسان بانتظاري كما لو كانتا قد انتظرتا طوال الأسبوع في الشرفة الصغيرة المعتمة المغطاة بالستائر إذا كان الجو لطيفا، فقد كان بإمكانهما أن تريا من بالخارج، ولكن لا أحد يمكنه رؤية ما بالداخل.
ماذا كان بوسعي أن أقول؟ أصبح منزلهما أشبه بدولة صغيرة محكمة الإغلاق بغطاء من العادات المنمقة واللغة المعقدة بصورة أنيقة وسخيفة في الوقت نفسه، عالم كانت فيه الأخبار الحقيقية للعالم الخارجي ليست ممنوعة تماما، ولكن أصبح توصيلها إليهما مهمة أكثر صعوبة.
وفي الحمام أعلى المرحاض، وضعتا ملاحظتهما التوبيخية القديمة المكتوبة بالتطريز:
Shafi da ba'a sani ba