الذين ماتوا لأنهم كانوا يتبولون في حسائهم في أيام الآحاد ...
نظرت إلى هذين العاشقين الممددين على أعشاب المقبرة دون أي حسد مني أو فضول. وفي طريقي إلى جوبيلي، أحسست أني أعدت امتلاك العالم؛ الأشجار، والبيوت، والأسيجة، والشوارع كلها عادت إلي بأشكالها العادية المألوفة. لقد عاد العالم إلى هيئته الطبيعية القاسية، منفصلا عن حياة المحبين ولا يلونه الحب. صدمتني هذه الحقيقة أولا، لكني وجدت فيها بعد ذلك مواساة غريبة، ثم بدأت أشعر أن نفسي القديمة - نفسي المراوغة الساخرة المنعزلة - بدأت تتنفس من جديد بداخلي وتتمدد وتستقر، رغم أن جسدي المحيط بها بدا مشروخا مصدوما غارقا في ألم الخسارة الأحمق.
كانت أمي قد أوت إلى فراشها بالفعل. عندما فشلت في الحصول على المنحة الدراسية، انهار أمامها حلم لم تشك أبدا في إمكانية تحقيقه؛ ألا وهو آمالها في المستقبل التي كانت تضعها في أبنائها. لقد واجهت احتمال أنني وأوين لن نفعل شيئا ولن نصير شيئا، وأننا شخصان عاديان لا يميزنا شيء، أو أننا قد أصابتنا عدوى الحماقة الفظيعة المتكبرة المقدسة لعائلة أبي. فها هو ذا أوين يعيش في طريق فلاتس، لا تخلو كلماته من الأخطاء النحوية والإملائية، ويقتدي بالعم بيني في الأساليب النحوية، ويقول إنه يريد أن يترك المدرسة، وها أنا ذي أواعد جارنيت فرينش وأرفض الحديث عن الأمر ولم أنجح في الحصول على المنحة الدراسية.
قالت بمرارة : «افعلي ما تريدين .»
لكن هل من السهل أن أعرف ما أريد؟ دخلت إلى المطبخ وأوقدت النور، وأعددت لنفسي خليطا كبيرا من البطاطس المقلية والبصل والطماطم والبيض، وأخذت آكله بنهم وتجهم من المقلاة مباشرة وأنا أقف في المطبخ. كنت أشعر أني حرة وغير حرة، أشعر بالارتياح والبؤس والوحدة. ماذا لو لم أفق وأعد إلى نفسي؟ ماذا لو أني تركت نفسي أستلقي وأعمد في نهر واواناش؟
لعدة سنوات، كنت أفكر في هذا الاحتمال بصورة متقطعة كما لو كان لا يزال متاحا، ومعه كنت أفكر في ظلال أوراق الشجر وبقع الماء في منزله، وكنت أفكر في سخاء جسد عشيقي.
لم يأت جارنيت يوم الإثنين، انتظرت لأرى إن كان سيأتي. مشطت شعري وانتظرت وراء الستار في حجرة الاستقبال كالمعتاد، لم أعرف ماذا سأفعل إن أتى؛ فقد كان ألم رغبتي في رؤية شاحنته ورؤية وجهه يبتلع كل شيء آخر. فكرت أن أسير من أمام الكنيسة المعمدانية لأرى إذا ما كانت شاحنته هناك، لو كنت فعلت هذا، ولو كانت الشاحنة هناك، لربما كنت دخلت إلى الكنيسة وأنا متصلبة كمن يمشي خلال نومه. غير أنني في الواقع لم أتجاوز الشرفة، ولاحظت أنني أبكي، أبكي بذلك الأنين الرتيب الذي يفعله الأطفال عندما يتألمون. استدرت وعدت إلى البهو كي أنظر في المرآة المعتمة إلى وجهي الباكي المبتل، راقبت نفسي، دون أن يخفف هذا من ألمي، واندهشت من فكرة أن ذلك الشخص الذي كان يعاني هو أنا؛ لأنه لم يكن أنا على الإطلاق. لقد كنت أشاهد، كنت أشاهد وأعاني. خاطبت المرآة بأحد أبيات تينيسون، قرأته في كتاب الأعمال الكاملة لتينيسون الذي تملكه أمي، والذي أهدته لها معلمتها القديمة الآنسة راش، تلوته بإخلاص شديد وسخرية مطلقة: «قالت إنه لن يأتي.»
كان ذلك البيت من قصيدة «ماريانا»، وهي واحدة من أكثر القصائد التي قرأتها سخافة في حياتي، لكنها جعلت دموعي تنهمر بحرارة أكثر على وجنتي. كنت لا أزال أراقب نفسي، ثم ذهبت إلى المطبخ وأعددت لنفسي فنجانا من القهوة، ثم أخذته إلى غرفة الطعام وكانت لا تزال جريدة المدينة على المائدة، وقد قصت أمي منها الكلمات المتقاطعة وأخذتها معها إلى فراشها. فتحت الجريدة على صفحة الإعلانات وأمسكت بقلم رصاص حتى أضع دائرة حول أي إعلان وظيفة قد تكون ملائمة. أفهمت نفسي ماذا أقرأ، وبعد برهة أحسست ببعض الامتنان الرقيق المعتدل تجاه تلك الكلمات المطبوعة المفعمة باحتمالات غريبة. كانت هناك أسماء مدن، وإعلان يطلب عاملات خدمات هاتفية. لا يزال بإمكان المرء أن يرسم خطوط مستقبله دون حب ودون منح دراسية. وأخيرا، ودون أي خيالات أو خداع للذات، وبتناسي أخطاء الماضي، الفادح منها والبسيط، وبتناسي ما به من حيرة وارتباك، وبحقيبة ملابس صغيرة أحملها في يدي وأستقل الحافلة - كما تفعل الفتيات في الأفلام عندما يتركن منازلهن أو أديرتهن أو عشاقهن - اعتقدت أنني سأبدأ حياتي الحقيقية. «جارنيت فرينش، جارنيت فرينش، جارنيت فرينش.» «حياة حقيقية.»
الخاتمة: المصور
«هذه المدينة تعج بحالات الانتحار.» كانت هذه إحدى العبارات التي ترددها أمي كثيرا، ولفترة طويلة كنت أحمل هذه العبارة الغامضة الجازمة في عقلي أينما ذهبت وأومن بصحتها، أومن أن حالات الانتحار في جوبيلي أعلى من غيرها من الأماكن الأخرى كما أن بورترفيلد بها الكثير من الشجارات والسكيرين، وأن حالات الانتحار هذه ميزت المدينة مثل قبة دار البلدية. لكن فيما بعد، تغير سلوكي تجاه كل ما قالته أمي، وأصبحت نظرتي له نظرة متشككة ومنكرة، بل وجادلتها في الواقع أنه لا توجد سوى حالات انتحار محدودة في جوبيلي، وأن عددها لا يتجاوز المعدلات العادية، وكنت أتحداها أن تسمي لي هذه الحالات. فكانت هي تحصيها بشكل منهجي بذكر كل الحالات التي حدثت في كل شارع على حدة في عقلها قائلة: «... ذلك الذي شنق نفسه عندما كانت زوجته وأولاده في الكنيسة ... وذاك الذي خرج من غرفته بعد الإفطار وأطلق الرصاص على رأسه ...» لكن لم تكن هناك في الواقع حالات كثيرة، وكنت أنا أقرب للحقيقة منها على الأرجح.
Shafi da ba'a sani ba