وإذا اتصل الأمر بالسياسة، فإن طائفة من الموظفين المنتسبين إلى الجماعة قد فزعوا فآثروا البراءة منها على الدفاع عنها، وأشفقت طائفة على مصير الجماعة فأوفدت وفدا إلى الأستاذ الديناري شيخ الجامع يحقق له الرواية ويمحو سوء الظن ويعتذر ... ولكن شيخ الجامع رد الوفد ردا غير جميل وقال عن الرافعي ما قال ...
وجاء الخبر إلى الرافعي بما أحدثت كلمته، فما أفزعه من ذلك إلا أن يصدق شيخ الأزهر ما نقل إليه منسوبا إلى الرافعي وإنهما لصديقان من زمان ... فكتب إليه: ... وإن شيخا من علماء الجامع الأحمدي يزعم أن الإسلام قد انتشر على حد السيف! وهذا كلام، وسيبقى كلاما ما دمت ساكتا عنه، فإذا عرضت له بالمناقشة فقد تغير وجهه، لو كان وجه النهار لاسود.
وعلم شيخ الأزهر حقيقة الدعوى التي ادعاها خصوم الرافعي عليه بما زادوا فيها ونقصوا، فكتب يعتذر إليه، وكتب إلى شيخ الجامع الأحمدي ...
وكان الرافعي جالسا إلى مكتبه في المحكمة حين جاءه الرسول يدعوه إلى مقابلة شيخ الجامع الأحمدي، فرده، وعاد يدعوه ثانية ويلح في الرجاء، فحدد الرافعي موعدا.
وذهب إلى لقاء الشيخ، فاستقبله العلماء بالباب في حفاوة بليغة، وسعوا بين يديه مهرولين إلى مكتب الشيخ، قال الرافعي: «ووجدت الشيخ في انتظاري وبين يديه «إعجاز القرآن» فما لقيني حتى قال: أتعرف يا سيدي أنني مدين لك؟ هذا كتابك لا أجد لي رفيقا خيرا منه، إنه زادي وعمادي. ثم عيث في درج مكتبه قليلا فأخرج ورقة فيها شعر مكتوب، فدفعها إلي وهو يقول: وهذه قصيدة أعددتها لأنشدها بين يدي المليك في طريق عودته إلى القاهرة من مصيفه، لا أجد من يصلحها خيرا منك، فأنت أنت للشعر وللبيان!»
قال لي الرافعي: «وبدون هذا كانت تقنع نفسي وترضى، ولكنها كانت وسيلة الشيخ إلى استرضائي، طاعة لأمر شيخ الأزهر بعد الذي قال عني منذ أيام ...»
تم الصلح بين الرافعي والأزهر، ولكن الأزمة التي كانت، لم تبق على الجماعة، فانحلت بعد ما طار منها أكثر أعضائها من الموظفين خشية التهمة بالسياسة، وكان للسياسة يومئذ حديث طويل ...
ولم يشترك الرافعي - على ما أعلم - في غير هاتين الجماعتين. •••
ولم تتهيأ للرافعي رحلة من الرحلات يفيد منها علما أو تجربة طول حياته، غير رحلة أو رحلتين - لا أذكر - إلى الشام، لم يفارق مصر إلى غير الشام من بلاد الله، فزار طرابلس حيث ما تزال أسرة الرافعي لها ذكر وجاه، وزار لبنان حيث عرف صاحبة حديث القمر في سنة 1912.
على أن الرافعي كان يحب الرحلة ويطرب لها ويتمنى لو أتيحت له، ولكن موارده المحدودة كانت تقعد به، ولما كان في بطانة المغفور له الملك فؤاد، كان له جواز سفر مجاني في الدرجة الأولى على خطوط سكة الحديد المصرية، فكان يعد حصوله على هذا الجواز ظفرا بأمنية عزيزة؛ لأنه أتاح له أن يتنقل ما شاء بين البلاد من غير غرم، حتى ما يكاد يستقر في بلد، فيوما في القاهرة، ويوما في الإسكندرية، ويوما في بورسعيد، يفيد من هذه الرحلات ما يفيد لأدبه أو لبدنه وأعصابه، حدثني مرة أنه كان ينظم قصيدة من مدائحه الملكية، فأحس شيئا من التعب والملال، فقصد إلى المحطة فاتخذ مقعده في قطار كان على أهبة السفر إلى بورسعيد، فأتم قصيدته هناك ثم عاد ...
Shafi da ba'a sani ba