وودعته وهو يتفق مع حوذي ليوصله في مركبته، مركبة خيل؛ لأن السيارة لم تكن شائعة في تلك الأيام.
وكان الجو ليلتها رائقا والقمراء في أوانها، وسكون الهزيع الثاني من الليل يغري بالغناء.
ويظهر أن الحوذي - حين رآنا نخرج من النادي الغنائي - قد بدا له أننا من هواة السمع، فلا حرج عليه إذا طرب وأطرب، وراح يتغنى بما شاء من «الطقاطيق» التي يهواها، ولم ينس أن يعتذر إلى «زبونه» بعد أن رفع عقيرته بالغناء: لا مؤاخذة يا سيدنا البيه، إن محسوبك من هواة السمع، وإني ... وقبل أن يمعن في الاعتذار، بادره «الزبون» قائلا: خذ راحتك ... «أنا والله أحب أسايرك!»
فلم يملك الحوذي نفسه من الطرب والارتياح؛ لأن الجواب الذي سمعه جزء من «الطقطوقة» التي كان يغنيها، وراح يغني تارة ويردد قصته التي بدأ فيها تارة أخرى، وخلاصتها أنه كان - لهوايته السماع - يختار موقفه إلى جانب «تخوت الآلاتية»، ويسترق السمع بين لحظة وأخرى كلما استطاع الإفلات من رقابة البوليس.
وانجلى الحوذي، وخلا له الجو بعد باب السيدة عائشة، ونسي البوليس والزبون، ومضى كأنه في ليلته يود ألا تنقضي به الطريق.
وتدرك أخانا المازني تلك الشنشنة التي لا تفارقه، ويوحي إليه الموقف بالخاتمة الصالحة لهذا «الفصل الغنائي»، الذي أقحمه الحوذي عليه، فأفسد عليه في آخر الليل ما سمعه في أوله: إن المطرب المقتحم قضى ساعة، وهو يقول في الطقطوقة التي يغنيها: «لما أشوف آخرتها معاك ...»
فماذا لو كانت آخرتها أن يلتفت عند خاتمة المطاف فلا يجد الزبون؟
خطر الخاطر فلحق به التنفيذ، وخلت المركبة والمطرب المشغول بغنائه لا يدري؛ لأن خلو المركبة وإخلاءها بذلك الحمل الذي كان فيها يستويان ...!
والتفت الحوذي بعد أن طالت الرحلة، ولم يستمع من الزبون صوتا ولا أمرا بالوقوف ... فطار ما في دماغه من الغناء، وامتلأ بكل ما وعاه في حياته من البذاء.
ولا حاجة بالقارئ إلى ترديد ما ألقاه من لسانه في ذلك الخلاء، وليس من حوله أحد يجيبه إذا استدل به، وغريمه الباحث عنه هو دليله الوحيد.
Shafi da ba'a sani ba