وأظن اليوم أن فرط الثقة بقوة الحجة، والقدرة على الإقناع هو الذي كان يسوغ له أن يسمع كل رأي، ويقبل كل تحد، ويجيب عن كل سؤال، ودام عملي في صحيفة الدستور من عددها الأول إلى عددها الأخير إلا أشهرا قليلة فارقتها فيها، ثم عدت إليها ... فأكاد أقول: إن ما خالفته فيه أثناء هذه المرة أكثر مما وافقته عليه، ولكنه لم يغير كلمة واحدة كتبتها لمخالفة رأيه.
كان شديد الإيمان بالجامعة الإسلامية على منهج قريب من مناهج الرسميين، ولم يكن كغيره من طلاب الكسب والجاه من وراء هذه الدعوة، بل كان يخسر الكثير في أحرج أوقات الحاجة إلى المال، ومن ذلك أنه رفض الاتفاق مع حزب تركيا الفتاة اعتبار «الدستور» لسان حال للحزب في سياسته العثمانية، بعد أن تكفل الحزب بالإنفاق على الصحيفة وسداد ديونها؛ لأن الحزب كان يشترط أن ترفع من عنوان الصحيفة كلمة «لسان حال الجامعة الإسلامية» ... ولم تمض أسابيع حتى كان الرجل يبيع كتبه بثمن يضارع ثمن وزنها من الورق؛ ليؤدي مرتبات الموظفين والعمال.
وعلى هذا التشبث بهذه الدعوة كنت أخالفه فيها، وأرى أنها تعمل لنفسها، ويعمل لها الزمن أضعاف ما يعمله المنقطعون لها من دعاتها المخلصين وغير المخلصين، فلم يحاول قط أن يفرض علي رأيا في قضية من قضاياها بغير الإقناع أو السكوت ...
وكانت صحيفة «الدستور» لسانا ثانيا للحزب الوطني بعد «اللواء»، وكان موقف الحزب الوطني معروفا من سعد زغلول، وبخاصة بعد قيام الشيخ جاويش على تحرير اللواء، ولكنني كنت أؤيد سعدا وأرد على ناقديه في الدستور، فلم يمنع كلمة واحدة مما كتبته في هذا الموضوع.
وكان من غلواء الأستاذ وجدي في محاربة الاختلاط الجنسي أنه كان يشجع الهواة على إنشاء فرق تمثيلية، يتم فيها التمثيل بغير ظهور النساء على المسرح، وهذه حذلقة تغري بالسخرية حتى في تلك الآونة ... ولم يكن الرجل على جهل بتاريخ التمثيل في الغرب الحديث أو القديم، فكان إذا لمح مني بادرة من بوادر السخر الخفية لم يزد في حدته على أن يقول: «لقد أجازها شكسبيركم لضرورة من ضروراته ... فهل وقفت ضرورات الدنيا كلها عند شكسبير!»
الغاضبون
وأعتقد أن اختيار اسم الصحيفة وحده كان ميزانا لنزاهة هذا الرجل، ولحريته الفكرية والدستورية، يغني عن كثير من الموازين.
وماذا في «اسم» على رأي شكسبير أيضا؟
فيه كثير وكثير، ولا سيما في العصر الذي سميت فيه الصحيفة باسم الدستور.
كان اسم «الدستور» يغضب قصر «يلدز»، ويغضب قصر عابدين، ويغضب «قصر الدوبارة».
Shafi da ba'a sani ba