139

ليلة القدر

ليلة القدر خير من ألف شهر (القدر: 3).

والمتفق عليه بين جلة المفسرين أن ليلة القدر قد شرفت هذا التشريف لنزول القرآن الكريم فيها، ولا خلاف بينهم على هذا المعنى، ولكنهم - كعادتهم في تحقيق كل دقيقة وجليلة من تفاصيل الآيات والأخبار القرآنية - يفسرون نزول القرآن على كل وجه من وجوهه المحتملة، إذ يجوز أن يكون المقصود به ابتداء النزول، كما يجوز أن يقصد به نزول الكتاب كله جملة واحدة، ويشير القرطبي وابن كثير إلى قول القائلين: إن ليلة القدر اسم جنس لجميع الليالي التي تنزلت فيها الآيات، قد تبلغ عدتها عشرين ليلة أو أكثر من عشرين ليلة على هذا الاحتمال، ولكنه قول لا يأخذ به الكثيرون، وإن أخذوا بتعدد الليالي التي تنزلت فيها آيات الكتاب.

والمفسرون الذين يحققون أن ليلة واحدة من ليالي شهر رمضان يرجحون أنها إحدى لياليه العشر الأخيرات، وأنها على الأرجح ليلة السابع والعشرين منه لأسباب لا محل لتفصيلها في هذا المقام.

ومن المفسرين من يرى أن نزول القرآن الكريم جملة واحدة هو المقصود بنزوله في ليلة القدر، ويعززون رأيهم بأن ابتداء نزول الآيات كان نهارا، ولم يكن في ليلة من الليالي؛ لأنه من المتواتر أن النبي - عليه السلام - خوطب بأول آية كريمة وهو عاكف بغار حراء، وقيل له: اقرأ. فقال: ما أنا بقارئ، إلى آخر ما ورد في الحديث المشهور، ولكن الأمر الذي لا خلاف فيه أن سورة العلق التي افتتحت بهذه الآيات قد تمت بعد ذلك؛ لما ورد فيها من الإشارة إلى الأمور التي حدثت كما قال الأستاذ الإمام «بعد شيوع خبر البعثة، وظهور أمر النبوة، وتحرش قريش لإيذائه عليه السلام».

فلا خلاف على وجه من الوجوه في تشريف ليلة القدر لنزول القرآن الكريم فيها آيات متفرقة أو جملة واحدة، وإن حكمتها الكبرى أنها هي ليلة الفرقان كما جاء في سورة الدخان:

إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين * فيها يفرق كل أمر حكيم .

فهي ليلة القدر؛ لأنها ليلة التقدير والتمييز بين الخير والشر، والتفريق بين المباح والمحظور، والأمر بالدعوة والتكليف، وهو أشرف ما يشرف به الإنسان؛ لأنه هو المخلوق المميز بالتكليف والمخصوص بالتمييز بين جميع المخلوقات، ومن أجل هذا فضل الإنسان على الملائكة؛ لأنها لا تتعرض لما يتعرض له الإنسان من فتنة التمييز بين المباح والمحظور، وفضيلة الوصول إلى الخير والامتناع عن الشر بمشيئة الحي المكلف المسئول، وقد افتتحت دعوة محمد - عليه السلام - بالأمر بالقراءة، واقتران تمييز آدم على الملائكة بفضيلة العلم، كما جاء في وصف الخليفة من الكتاب المبين:

كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون * هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم * وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون * وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين * قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم * قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون (البقرة: 28-33).

وقد جاء وصف الإنسان بهذه المزية بعد الأمر بالقراءة في أول آية خوطب بها عليه السلام:

Shafi da ba'a sani ba