114

طه حسين

للقدماء ضروب من التوقير يستخف بها المحدثون، ولا يحفلون بها، وحق لهم أن يستخفوا ولا يحفلوا؛ لأنها ترجع إلى أسباب خاطئة في زمانها فضلا عن الأزمنة الحديثة، وليس أدل على قلة الحياء من كثرة البحث فيما يجوز وما لا يجوز؛ لأنه دليل على كثرة القيود.

وأول ضروب التوقير التي يحق للمحدثين أن يستخفوا بها اجتناب الكتابة عن الأحياء، وقصر التاريخ والتقدير على من فارقوا الحياة، فربما كان مصدر هذا العرف عند القدماء أنهم كانوا يكبرون السلف، ويحصرون فيه العلم والمعرفة والأدب والخلق والشهرة، وكأنهم كانوا يستكثرون الجمع بين العلم والحياة أو بين الشهرة والحياة في وقت واحد: فإما حياة وخمول وإما موت وشهرة، ولا توسط بين الأمرين في تاريخ العلماء والأدباء، وتقدير حظوظ العلم والأدب.

وقد جرف العصر الحديث ذلك العرف جرف السيل، فكثرت تراجم الأحياء، بل كثرت تراجم الأدباء لأنفسهم بأقلامهم ونشرها في إبان حياتهم، وتلك علامة خير وصلاح؛ لأن ما خف من جانب التوقير إنما يزيد الحياة؛ لأن إساغة التاريخ للأحياء تدل على رحابة الصدر والتفاهم على الطبيعة الإنسانية في جوانب كمالها ونقصها وإطرائها وعيبها؛ ولأن العصر الذي يساغ فيه الاعتراف ببعض العيوب هو العصر الذي تتوافر فيه المزايا والمحاسن، فلا يضار المرء بالنقد؛ لأنه يعرف حدود الطبيعة الإنسانية، وما يبقى له بعد النقد من وجوه التحبيذ والترجيح.

ولست أنا من أعداء القديم حبا لعداوة القديم، ولكنني أكره التحرج الكثير في غير طائل، وأشايع زمني في هذه العادة خاصة، فلا أرى حرجا في الثناء على الدكتور طه حسين، أو اغتيابه على ملأ من الناس ... ولهذا أجبت دعوة «الهلال» حين دعاني إلى إجمال رأيي في الصديق العالم الأديب، وهو يعدني أو ينذرني بمثل هذا النصيب، وقبلت الكتابة وأنا أرجو ألا أكون مغلوبا حين تنكشف الورقتان المطويتان؛ إذ الكلام في كلينا سر مكتوم عن صاحبه حتى يطلع الهلال، وعندئذ تشيع الغيبة وينجلي السر عمن أحسن الحيطة والتخمين.

أنا ضامن أن الدكتور طه حسين سيقول: إنني شاعر، فليضمن الدكتور طه حسين إذن أن أقول فيه: إنه كاتب ناتج في الأدب، وخير ما نتجه كتابه «الأيام» وكتابه «في الصيف»، وهما الكتابان اللذان سرد فيهما بعض ما جرى له في حياته، فكان فيهما مثلا في البساطة والثقة التي تعزف بصاحبها عن التماس التأثير المصطنع بالتعمل، والتجمل، والطلاء، والتزويق، فالموصوف في هذين الكتابين صادق بسيط، والوصف كذلك على مثل هذه الحال من الصدق والبساطة، ولكني لم أطلع على شيء يصف به الدكتور ما لم يجر له، أو يصف ما يخلقه من الشخوص والحوادث في عالم الرواية، فما علة ذلك يا ترى؟

أنا ضامن أن الصديق الأديب سيجد عيبا أو عيوبا في شعري يقيسها بمقياسه ويقدرها بمعياره، فإذا ضمنت هذا فليضمن الصديق الأديب أن أعلل قلة الوصف المخلوق في كتاباته القصصية لعيب فيه، هو قلة الخيال ... فهو يصف ما يعالجه من المحسوسات، ولا يتخيل ما عداه من نقائضه أو مشابهاته، والعوض من ذلك عنده أنه يحسن البساطة التي يندر من يحسنها، ويشعر بالكفاية التي تأتي من الثقة والاطمئنان إلى صدق الشعور، وهو عوض فيه غنى لمن يحسن الاستغناء. •••

أما طه حسين الناقد فماذا أقول له؟

أقول: إنه اطلع على الأدب العربي القديم اطلاعه الواسع الذي لا جدال فيه، واطلع على نفائس من أدب الإغريق واللاتين الأقدمين، واطلع على آثار رهط من كبار الأدباء الأوروبيين ولا سيما الفرنسيين، كل أولئك خليق أن يحبب إليه الصحة والمتانة والقوة، ويبغض إليه الزيف والسخف والركاكة، فهو يختار ما يعلو على مقاييس المقلدين المصطنعين، وينبذ ما يستطيبه المحدودون من أصحاب الاطلاع القليل أو أصحاب الذوق السقيم، وله في ذلك قواعد صحيحة ومراجع وثيقة، واعتماد على فكر لا يتقيد إلا بما يرضاه.

وإلى هنا لا أظن أن الدكتور سيعترف لي بأقل من هذا القدر في ميزان الكتابة المنثورة، فأنا رابح على هذا التقدير.

Shafi da ba'a sani ba