فأردت أن أحطم هذا السد بين الوزارة المصرية والأمة المصرية، وهمني أن أحادث سعدا على الخصوص؛ لأنني كنت أعجب به وأترقب لمصر نهضة وزارية على يديه، وكان في تلك الأيام عرضة لحملة جائرة من بعض خصومه، وكنت أعلم أنها جائرة؛ لأنهم زعموا أنه حارب الجامعة وهو الذي رصد لها عشرة آلاف جنيه في ميزانية الدولة، وزعموا أنه حارب التعليم باللغة العربية وهو الذي دفع الطلاب دفعا إلى مدرسة المعلمين، وجعل لهم مرتبات شهرية وهم في سلك الدراسة؛ ليخرج منهم أساتذة يعلمون الدروس باللغة العربية، وزعموا أنه مالأ الإنجليز على تقييد التعليم، وهو الذي كان يطوف البلاد من أسوان إلى رشيد لمحاربة الأمية بتعميم المكاتب الأولية.
فاتخذت من حديثي معه وسيلة لدفع الشبهات بالأسانيد الرسمية، وحصلت فعلا على تلك الأسانيد، ورأيت بعيني ما يثبت لي صدق ما ظننته في عزيمة سعد واحتفاظه بكرامته وكرامة منصبه؛ لأن المستشار العنيد - دانلوب - جاء يستأذن في عرض أوراق عليه، ولم يكن مستشار إنجليزي يستأذن في عرض أوراق، بل كان ينظر في كل مسألة بنفسه، ويعرض ما يشاء من ذلك على الوزير للتوقيع.
نشرت حديثي مع سعد في شهر مايو سنة 1908 بصحيفة الدستور، ولم أحادث سعدا باقتراح من الأستاذ الجليل صاحب الصحيفة، ولكن الأستاذ الجليل من كتابنا القلائل الذين يعرفون حرية النشر، وكثيرا ما خالفته فيما أكتب وأنا يومئذ في مطلع حياتي الصحفية، وربما ذهب في مسألة من المسائل إلى رأي وذهبت إلى غيره، فلا يرى حرجا في نشر ما أكتب كما أراه.
إميل لودفيج
أما إميل لودفيج فلم يكن لقائي له عملا صحفيا، ولا أنا أردت أن ألقاه لأنشر ما يجري بيني وبينه من الأحاديث، ولكنه حضر إلى القاهرة فأقامت له المفوضية الألمانية حفلة استقبال في دار وزيرها، وأحب أن يتعرف لهذه المناسبة إلى أناس من المشتغلين بالأدب والدعوة الفكرية من المصريين، فكنت أحد المدعوين.
وتصافحنا في مزدحم من الأجانب والمصريين والرجال والسيدات، فقال لي: إنه يود لو تلاقينا في فرصة أخرى.
وكان صديقي الأستاذ محمود الدسوقي سكرتيرا شرقيا للمفوضية الألمانية، فدعانا معا إلى اللقاء في حجرة من حجرات المفوضية وآثر لودفيج أن نتحدث على انفراد.
وأحسست من أسئلته الأولى أنه ينزع في مسائل المجتمع والسياسة نزعة اشتراكية معتدلة، فقلت: إنني أوافق الاشتراكيين في كل ما يؤدي إلى تحسين أحوال الفقراء والأجراء، وأخالفهم في كل ما يؤدي إلى حرمان الفرد حريته الفكرية والشخصية.
فقال: «حسن. حسن.» وكررها مرات.
ثم أحسست أنه قد اطمأن إلي بعد لحظات من الحديث وتبادل وجهات النظر؛ لأنه أفضى إلي بأصرح ما دار بينه وبين المصريين والأجانب من الأحاديث العامة في المسائل الوطنية والعالمية.
Shafi da ba'a sani ba