93

وأمر أصحابه أن يلحقوا الأنصار بيثرب، على أن يتركوا مكة متفرقين حتى لا يثيروا ثائرة قريش عليهم. وبدأ المسلمون يهاجرون فرادى أو نفرا قليلا. لكن قريشا فطنت للأمر، فحاولت أن ترد كل من استطاعت رده إلى مكة لتفتنه عن دينه أو لتعذبه وتنكل به. وبلغت من ذلك أنها كانت تحول بين الزوج وزوجه إذا كانت المرأة من قريش فلا تدعها تسير معه، وأنها كانت تحبس من تستطيع حبسه ممن لم يطعها. لكنها لم تكن تقدر على أكثر من ذلك، حتى لا تكون حرب أهلية بين مختلف قبائلها إذا هي همت بقتل واحد من أهل هذه القبائل. وتتابعت هجرة المسلمين إلى يثرب ومحمد مقيم حيث هو، لا يعرف أحد هل اعتزم الإقامة أم قرر الهجرة. وما كانوا ليعرفوا وقد أذن لأصحابه في الهجرة إلى الحبشة من قبل وظل هو بمكة يدعو سائر أهلها إلى الإسلام. وبلغ من ذلك أن أبا بكر استأذنه في الهجرة إلى يثرب، فقال له: لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبا، ولم يزد على ذلك.

على أن قريشا كانت تحسب لهجرة النبي إلى يثرب ألف حساب. لقد كثر المسلمون فيها كثرة جعلتهم يكادون يكونون أصحاب اليد العليا. وها هم أولاء المهاجرون من مكة ينضمون إليهم فيزيدونهم قوة. فإذا لحق محمد بهم - وهو على ما يعرفون من ثبات وحسن رأي وبعد نظر - خشوا على أنفسهم أن يدهم اليثربيون مكة أو يقطعوا عليها طريق تجارتها إلى الشام، وأن يجيعوها كما حاولوا هم أن يجيعوا محمدا وأصحابه حين وضعوا الصحيفة بمقاطعتهم وأكرهوهم على أن يلزموا الشعب وأن يقضوا فيه ثلاثين شهرا.

وإذا بقي محمد بمكة وحاول الخروج منها، فهم معرضون لمثل هذا الأذى من جانب اليثربيين دفاعا عن نبيهم ورسولهم. فلم يبق إلا أن يقتلوه ليستريحوا من كل هذا الهم الواصب.

5

لكنهم إن قتلوه طالب بنو هاشم وبنو المطلب بدمه وأوشكت الحرب الأهلية أن تفشو في مكة فتكون شرا عليها مما يخشونه من ناحية يثرب. واجتمع القوم بدار الندوة يفكرون في هذا كله وفي وسيلة اتقائه. قال قائل منهم: احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابا ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله؛ زهيرا والنابغة ومن مضى منهم، حتى يصيبه ما أصابهم. لكن هذا الرأي لم يلق سميعا. وقال قائل: نخرجه من بين أظهرنا وننفيه من بلادنا ثم لا نبالي بعد ذلك من أمره شيئا. لكنهم خافوا أن يلحق بالمدينة وأن يصيبهم ما يفرقون منه. وانتهوا إلى أن يأخذوا من كل قبيلة فتى شابا جليدا، وأن يعطوا كل فتى سيفا صارما بتارا فيضربوه جميعا ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه بين القبائل، ولا يقدر بنو عبد مناف على قتالهم جميعا، فيرضوا فيه بالدية، وتستريح قريش من هذا الذي بدد شملها وفرق قبائلها شيعا. وأعجبهم هذا الرأي فاطمأنوا إليه، واختاروا فتيانهم، وباتوا يحسبون أن أمر محمد قد فرغ منه، وأنه بعد أيام سيوارى وتوارى دعوته في التراب، وسيعود الذين هاجروا إلى يثرب إلى قومهم وإلى دينهم وآلهتهم، وتعود بذلك لقريش ولبلاد العرب وحدتها التي تمزقت ومكانتها التي تضعضعت أو كادت.

الفصل العاشر

هجرة الرسول

(الأمر بالهجرة - علي في فراش النبي - في غار ثور - الخروج إلى يثرب - قصة سراقة بن جعشم - مسلمو يثرب في انتظار الرسول - الإسلام بيثرب - دخول محمد المدينة) ***

اتصل بمحمد نبأ ما بيتت قريش لقتله مخافة هجرته إلى المدينة واعتزازه بها، وما قد يجر ذلك على مكة من أذى، وعلى تجارتها مع الشام من بوار، ولم يكن أحد يشك في أن محمدا سينتهز الفرصة فيهاجر. على أن ما أحاط به نفسه من كتمان لم يجعل لأحد إلى سره سبيلا، حتى أبو بكر، الذي أعد راحلتين منذ استأذن النبي في الهجرة فاستمهله، قد بقي لا يعرف من الأمر إلا قليلا. ولقد ظل محمد بمكة حتى علم من أمر قريش ما علم، وحتى لم يبق من المسلمين بها إلا القليل. وإنه لينتظر أمر ربه إذ أوحى إليه أن يهاجر. هنالك ذهب إلى بيت أبي بكر وأخبره بأن الله أذن له في الهجرة. وطلب الصديق أن يصحبه في هجرته فأجابه إلى ما طلب.

هنا تبدأ قصة من أجل ما عرف تاريخ المغامرة في سبيل الحق والعقيدة والإيمان قوة وروعة. كان أبو بكر قد أعد راحلتيه ودفعهما إلى عبد الله بن أريقط يرعاهما لميعادهما. فلما اعتزم الرجلان مغادرة مكة لم يكن لديهما ظل من ريب في أن قريشا ستتبعهما؛ لذلك اعتزم محمد أن يسلك طرقا غير مألوفة، وأن يخرج إلى سفره في موعد كذلك غير مألوف. وكان هؤلاء الشبان الذين أعدت قريش لقتله يحاصرون داره في الليل مخافة أن يفر. ففي ليلة الهجرة أسر محمد إلى علي بن أبي طالب أن يتسجى برده الحضرمي الأخضر وأن ينام في فراشه، وأمره أن يتخلف بعده بمكة حتى يؤدي عنه الودائع التي كانت عنده للناس. وجعل هؤلاء الفتية من قريش ينظرون من فرجة إلى مكان نوم النبي، فيرون في الفراش رجلا فتطمئن نفوسهم إلى أنه لم يفر، فلما كان الثلث الأخير من الليل خرج محمد في غفلة منهم إلى دار أبي بكر وخرج الرجلان من خوخة في ظهرها، وانطلقا جنوبا إلى غار ثور؛ فاتجاههما نحو اليمن لم يكن مما يرد بالبال.

Shafi da ba'a sani ba