10
يسير عليك وقد داخلك الروع أن تقدر ما كان يتولى قريشا والمترفين منها خاصة، إذ كانوا يستمعون إلى هذا القول بعد إذ كانوا من قبل ما ينذرهم به من العذاب بنجوة في حمى آلهتهم وأوثانهم. ويسير بعد ذلك أن تقدر مبلغ حماستهم في تكذيب محمد ومناوأته والتأليب عليه. فهم لم يكونوا يعرفون البعث، ولم يكونوا يعترفون بما يسمعونه عنه. لم يكن أحدهم ليتوهم أنه مجزي عن عمل هذه الحياة بعد مفارقته الحياة. إنما كان خوفهم من المستقبل في هذه الحياة. كان خوفهم من المرض ومن الإصابة في الأموال والبنين وفي المكانة والجاه. كانت الحياة عندهم غاية الحياة. فكان كل همهم منصرفا لجمع أسباب الاستمتاع فيها ودفع كل ما يخشونه منها.
وإذ كان المستقبل غيبا محجوبا أمامهم. وكانت نفوسهم تحس أن أعمالهم شر قد يصيبهم الغيب من أجله بأذى، فقد كانوا يتفاءلون ويتطيرون: كانوا يستقسمون بالقداح، ويضربون بالحصى، ويزجرون الطير،
11
وينحرون للأوثان؛ كل ذلك يدرعون به مما يخافون من هذا المستقبل القريب في الحياة. أما الجزاء بعد الموت، أما البعث والنشور يوم ينفخ في الصور، أما الجنة التي أعدت للمتقين وجهنم التي أعدت للظالمين، أما ذلك كله فلم يكن يدور بخواطرهم، وذلك كله قد سمعوا به في دين اليهود وفي دين النصارى، ولكنهم لم يسمعوا عنه تصويرا قويا مخوفا كالذي يسمعهم الوحي على لسان محمد، والذي ينذرهم، إن هم ظلوا فيما هم فيه من لهو الحياة أو الاستكثار من المال بظلم الضعيف وأكل مال اليتيم وإهمال المسكين والغلو في الربا، بعذاب خالد في درك سقر تصطك القلوب فزعا من هوله لمجرد سماع صورته، ما بالك به محققا تراه البصيرة جاثما وراء الخطوة الضيقة التي يتخطى الإنسان من جانب الحياة إلى ناحية الموت، بعده البعث والنشور، والرضا أو الثبور؟!
أما ما وعد الله المتقين من جنة عرضها السموات والأرض لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما، فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، فكانت قريش في ريب منها. وكان يزيدها ريبا تعلقها بالعاجلة، وحرصها على أن ترى هذا النعيم محققا لها في حياة هذا العالم، وضيقها بالانتظار إلى يوم الجزاء، على حين لم تكن هي تؤمن بيوم الجزاء.
ولقد يأخذ الإنسان العجب كيف أقفلت قلوب العرب دون تصور الحياة الأخرى والجزاء فيها، في حين تدور رحى المعركة بين الخير والشر في هذا العالم الإنساني منذ الأزل، لم تعرف يوما هوادة ولا اطمأنت إلى سكينة. كان المصريون القدماء، قبل ألوف السنين من بعث محمد، يزودون الميت زاد الدار الآخرة، ويضعون في أكفانه كتاب الموتى بما فيه من أغنيات ونذر، ويصورون على معابدهم صور الميزان والحساب والتوبة والعقاب، وكان الهنود يصورون رضا النفس الراضية في «النرفانا» وتناسخ روح المسيء في صور من الخلق تتعذب أثناءها ألوف السنين وملايينها، حتى تلهم الحق فتطهر وتعود مرة أخرى إلى الخير طمعا في بلوغ «النرفانا». ولم يكن مجوس فارس لينكروا معركة الخير والشر وآلهة الظلمة والنور. والموسوية والعيسوية تصفان حياة الخلد ورضا الله وغضبه.
أفلم يبلغ هؤلاء العرب شيء من ذلك كله، وقد كانوا أهل تجارة يتصلون في رحلاتهم وأسفارهم بأهل هذه النحل جميعا؟! فكيف لا يبلغهم؟ وكيف لا تكون لهم صورة خاصة منه وهم أهل بادية وأشد اتصالا باللانهاية، وأقرب إلى تصور ما يشتمل عليه هذا الوجود من أرواح تتبدى في لهب الظهيرة وفي غسق الليل! أرواح خيرة وأخرى شريرة! أرواح هي التي يحسبونها تسكن جوف الأصنام التي تقربهم إلى الله زلفى؟! لا ريب أنه كانت عندهم فكرة من هذا الغيب المحيط بهم. لكنهم وهم أهل تجارة كانت نفوسهم أكثر للواقع المحسوس قدرا؛ ولأنهم أهل لهو وخمر كانوا أشد لجزاء الآخرة إنكارا. فكانوا يحسبون ما يلقاه الإنسان في هذه الحياة من خير أو شر جزاء عمله، ولا جزاء عنه بعد الحياة. ولذلك كان أكثر ما نزل من الوحي نذيرا وبشيار قد نزل بمكة في أول الرسالة، حرصا على الخلاص لأرواح هؤلاء الذين بعث محمد بينهم. ولقد كان جديرا بأن ينبههم إلى ما هم فيه من غي وضلالة؛ جديرا بأن يرتفع بهم من عبادة الأصنام إلى عبادة الله الواحد القهار.
في سبيل هذا الخلاص الروحي لأهله وللناس كافة احتمل محمد ومن آمن به من ألوان الأذى وصور التضحية، ومن آلام النفس والجسد، ومن الارتحال عن الوطن، ومن عداوة الأهل والولد، ما مر بك شيء منه. وكأنما كان محمد يزداد لأهله حبا وعلى خلاصهم حرصا كلما ازدادوا إيذاء له ومساءة. ويوم البعث والحساب كان آية الآيات التي يجب أن يتنبهوا لها لتنقذهم من شر وثنيتهم ومن التورط في آثامهم؛ لذلك لم يكن الوحي في السنوات الأولى يفتر عن إنذارهم بها وتفتيح عيونهم عليها، مع أنهم كانوا يمعنون في إنكارها وفي الازورار عنها، مما دعاهم إلى إشعال هذه الحرب الضروس التي لم تهدأ بينهم وبين محمد ثائرتها،
12
Shafi da ba'a sani ba